الانزياح في المستوى الترکيبي عند الشاعر إبراهيم مفتاح

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

کلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية – جامعة القصيم

المستخلص

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
يُعدُّ الشاعر إبراهيم مفتاح علامةً فارقةً في مسيرةِ الشعر؛ فهو يمثلُ حالةً شعريةً متميزةً في الشعريةِ العربيةِ المعاصرة في السعوديةِ خصوصًا، وفي الوطنِ العربي على وجه العموم.
فکرة الموضوع:
تعد ظاهرة الانزياح أحد الظواهر الأسلوبية في أدبنا العربي؛ فهي من الظواهر الفنية الواعية في الشعر الحديث، لذلک کانت فکرة هذا البحث محاولة لکشف سمات هذه الظاهرة في شعر إبراهيم مفتاح. 
ثانيا: أهمية الموضوع:
الانزياح من أهم أرکان الأسلوبية، حتى عده مجموعة من أهل الاختصاص -من أمثال: د.شفيع السيد، د.شکري عياد، د.منذر عياشي- کل شيء فيها، وعرفوها بما عرفوها بأنها: علم الانزياحات؛ ولعل هذا يعود إلى أن: "الانزياح يعتبر من أهم الظواهر التي يمتاز بها الأسلوب الأدبي عن غيره؛ لأنه عنصر يميز اللغة العادية، ولذلک نرى کبار نقاد الأدب، من أمثال: (سبتزر)، و(جورج مونان)، و(تودوروف)، و(جان کوهن) يتخذون من ظاهرة الانزياح في النص الأدبي أساسًا للبحث في الخواص الأسلوبية التي يتميز بها مثل هذا النص"([1]).
"والحق أن ما يجيز القول: أنَّ الانزياح يعدُّ من أهم ما قامت عليه الأسلوبية من أرکان، وما سيجيزه على الدوام أمران اثنان:
أولهما: أن الأسلوب من حيث هو طريقة الفرد الخاصة في التعبير سيظل دائمًا مقترنًا بالانزياح أو العدول عن طرائق أخرى فردية (أساليب کتاب آخرين)، أو جماعية (أساليب الأدب واللغة عامة).
وثانيهما: أن الأسلوبية نفسها کانت قد جعلت الانزياح منذ نشأتها عماد نظريتها"([2]).
فقد اتخذ رواد الأسلوبية ولا سيما (سبيتزر) من مفهوم الانزياح "مقياسًا لتحديد الخاصية الأسلوبية عمومًا، ومسبارًا لتقدير کثافة عمقها ودرجة نجاعتها"([3]).
 کما يرى (سبيتزر) أنَّ الأسلوبية "تحلل استخدام العناصر التي تمدنا بها اللغة، وأن ما يمکِّن من کشف ذلک الاستخدام هو الانحراف الأسلوبي الفردي، وما ينتج من انزياح عن الاستعمال العادي"([4]).
ثالثا: أسباب اختيار الموضوع:
لمـّـا کانت اللغة الشعرية من أهمِ مرتکزات التجديد في الشعرِ عند الشاعر مفتاح، فقد أثار ذلک – في نفسي- عدة تساؤلات، منها:
1-                کيف تجلى أسلوب الانزياح في شعر إبراهيم مفتاح؟
2-                ما أنماط الانزياح التي نسج شاعرنا على منوالها؟
3-                ما الأساليب الجزئية المتبعة في ترکيب النص الشعري عند مفتاح؟
4-                إلى أي مدى يؤثر الانزياح في لغة شاعرنا وصوره وفي شعرية نصوصه؟
 لذلک جاءت هذه الدراسة محاولة وضع إجابات محددة وافية لهذه التساؤلات.
     رابعا: الدراسات السابقة:
 دارت بعض الدراسات حول الشاعر، بيد أنها کانت بعيدة عن الأسلوبية في شعره، من هذه الدراسات:
1-                قراءة في تجربة الشاعر إبراهيم مفتاح الإبداعية (ندوة علمية –جامعة جازان) عام 1436هـ.
2-                الشعر في منطقة جازان (1351 – 1418هـ / 1932 – 1998م) للدکتور حسن النعمي. تناول فيها الحديث عن شاعرنا بيد أنه لم يتناول الجانب الأسلوبي عنده بهذا الشکل.
خامسا: صعوبات البحث:
هناک بعض العقبات التي أعاقت سيرورة هذا البحث إلى حد ما، منها:
1-                تنوع المدارس والاتجاهات الأسلوبية التي ينطوي تحت کل واحد منها کثير من التفاصيل الدقيقة، والقيم الأسلوبية المتفاوتة.
2-                تشعب العلاقات الرأسية والأفقية التي يتميز بها الانزياح کخاصية أسلوبية.
سادسا: خطة البحث:
وقد فرضت طبيعة هذه الظاهرة والأسئلة المُثارة حولها تقسيم الدراسة فيه إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة. بيانها کالتالي:
المقدمة: وفيها بيان الأسس الأولى للبحث، وما درجت عليه هذه الدراسة.
التمهيد: تناولنا فيه مفهوم الانزياح، وعلاقته بالأسلوبية.
المبحث الأول: وفيه دراسة أول أنماط الانزياح في المستوى الترکيبي (التقديم والتأخير).
المبحث الثاني: النمط الثاني من أنماط الانزياح عند مفتاح (الحذف).
المبحث الثالث: تناولنا فيه النمط الثالث للانزياح عنده (الالتفات).
الخاتمة: وفيها نتائج هذه الدراسة وما توصلت إليه. 
سابعا: منهج البحث:
فرضت طبيعة هذه الدراسة اختيار المنهج الأسلوبي کمنطلق علمي نسلک على نهجه دروب هذا البحث؛ فقد وجدتُ أن المنهجَ الأسلوبي هو أفضلُ مدخلٍ لدراسةِ شعره. والمنهجُ الأسلوبي الذي يستمدُ إجراءاته من علمِ البلاغةِ من جهة ومن علمِ الأسلوبيةِ من جهةٍ أخرى، يُعنى بدراسةِ النصِ الأدبي، ووصفِ طريقة الصياغة من أجلِ استخراج الخصائص والسمات التي تميزُ النصَ الأدبي، ويکشفُ عن مواطنِ الإبداعِ ومظاهرِ الفرادة التي يستقلُ بها الشاعرُ ويمتازُ بها عن الآخرين.
ولهذا عقدتُ العزمَ على أن يکونَ البحثُ دراسةً لشعرِ إبراهيم مفتاح، وفق المنهج الأسلوبي القائم على ثلاثِ رکائز أساسية تبدأ بالوصف ثم التحليل ثم استخلاص النتائج.
ترکز الأبحاث الأسلوبية على دراسة النصوص الأدبية دراسةً لغويةً عميقةً، وقد أخذ هذا المنهج طريقه بعد سيطرة الأبحاث الانطباعية في دراسة الأدب على الساحة النقدية؛ مما جعل القراء في انتظار هذه الدراسات التي تتجه في طريقها لمعالجة النصوص اتجاهًا علميًّا لکن ليست بصورتها التامة؛ لأننا نتعامل مع فنٍّ إبداعي.


 
التمهيد
تعريف الانزياح
الانزياح في اللغة:
جاء في اللسان: "(نَزَحَ): (نَزَحَ الشيءُ ينزحُ نزحًا ونزوحًا: بَعُدَ، وشيءٌ نزح ونزوح نازح. أنشد ثعلبٌ: (إن المذلة منزل نزح *** عن دار قومک فاترکي شتمي). ونزحتِ الدارُ فهي تنزحُ نزوحًا إذا بَعُدت، وقومٌ منازيحُ. قال ابن سيده، وقول أبي ذؤييب: (وصرَّح الموت عن غُلْبٍ کأنَّهم *** جربٌ يدافعها الساقي منازيحُ). إنما هو جمع منزاح، وهي التي تأتي إلى الماء عن بعد، ونزح به وأنزحَهُ، وبلدٌ نازحٌ، ووصل نازح: بعيد، وفي حديث سطيحٍ: عبدالمسيح جاء من بلد نزيحٍ أي بعيد، فعيل بمعنى فاعل. البئر ينزحها نزحًا وأنزحها إذا استسقى ما فيها حتى ينفذ، وقيل: حتى يقل ماؤها... وأنزح القوم: نزحت مياه آبارهم، والنزح: الماء الکدِر، وقد نزح بفلان إذا بَعُدَ عن دياره غيبة بعيدة..."([5]).
ويلاحظ أن مفهوم الانزياح لغةً في اللسان قد شمل انزياحا دلاليًّا فعليًّا في حدِّ ذاته، فقد دلَّ على معنى (البعد) وعلى معنى (النَّفاذ) في البئر التي ينفذ ماؤها أو يقلُّ وعلى (الماء الکدر) بلفظ النَّزح.
الانزياح في الاصطلاح:
الانزياح هو "استعمال المبدع للغة مفردات وتراکيب وصورًا استعمالًا يخرج به عما هو
معتاد ومألوف، بحيث يؤدي ما ينبغي له أن يتصف به من تفردٍ وإبداعٍ وقوة جذبٍ وأسرٍ"([6])،
 ويظهر من هذا التعريف أن الانزياح هو من الأشياء التي من خلالها تميز بين الکلام العادي والکلام الأدبي.
وبعبارة أخرى الانزياح هو "اختراق مثالية اللغة، والتجرؤ عليها في الأداء الإبداعي، بحيث يفضي هذا الاختراق إلى انتهاک الصياغة التي عليها النسق المألوف والمثالي، أو العدول في مستوى اللغة الصوتي والدلالي عما عليه هذا النسق"([7]).
الانزياح الترکيبي هو "ما يتعلق بترکيب المادة اللغوية مع جاراتها في السياق الذي تردفه"([8])، ويناقش هذا النوع من الانزياح "طريقة الربط بين الدوال بعضها ببعضٍ، انطلاقًا من العبارة الواحدة إلى الترکيب والفقرة"([9])، "فالعدول الترکيبي يعدُّ خروجًا عن النظام النحوي المألوف وخرقًا لأصوله؛ لأن شعرية النص تنشأ من خلال کسر النمط الشائع من الترکيب لتوغل في الاتساع، فتأتلف تراکيب جديدةٌ منزاحة لتشکل عالمًا لا تقع على مرجعه الذي نقل النص عنه، فيتجلى أمامک کيانًا مفردًا يدهشک بتجليه، وبما توحي به عناصره في النص"([10]).
وسأعرض في هذا المبحث لأهم الأنماط التي تشکل الانزياح الترکيبي في شعر مفتاح، وهي: التقديم والتأخير، الحذف، الالتفات.
 



[1]))    أحمد غالب النُّوري خرشه، أسلوبية الانزياح في النص القرآني، رسالة دکتوراه، جامعة مؤتة، الأردن، الکرک، 2008 م، نسخة إلکترونية، تمت زيارته بتاريخ 17/8/1438هـ، ص 5، 6.


[2]))    نفسه، ص 6.


[3]))عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للکتاب – ط3 – ليبيا د.ت- ص 102.


[4]))    نور الدٍّين السَّد، الأسلوبية وتحليل الخطاب، دراسة في النقد الأدبي الحديث، دار هومة للطباعة والنشر، ط1، الجزائر،1997م، ص 180.


([5]) ابن منظور، لسان العرب- دار صادر – ط4 – بيروت – 2005م –ج-حرف النون-مادة (نَزَحَ)، ص 231، 232.


(2) نور الدٍّين السَّد، الأسلوبية وتحليل الخطاب، دراسة في النقد الأدبي الحديث، دار هومة للطباعة والنشر، ط1، الجزائر،1997م ، ص 8.


[7]))    عباس رشيد الدَّدة، الانزياح في الخطاب النقدي والبلاغي عند العرب، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، العراق، بغداد، 2009 م، ص 15.


[8]))    أحمد محمد ويس، الانزياح من منظور الدراسات الأسلوبية، مؤسسة اليمامة الصحفية، ط1، الرياض، 2003م، ص 111.


[9]))    أحمد محمد ويس، الانزياح بين النظريات الأسلوبية والنقد العربي القديم، رسالة ماجستير، جامعة حلب، سوريا، 1416هـ-1995م، ص 103.


[10])) عبد الله خضر حمد، أسلوبية الانزياح في شعر المعلقات- عالم الکتب الحديث – ط1 – أربد – الأردن – 2013م.
- ص 66.
الخاتمة
 
شکلت أنماط الانزياح الترکيبي عند شاعرنا نقطة الالتقاء بينه وبين المتلقي؛ الأمر الذي عزز من شعريته، وعکس مدى فاعلية متلقيه مع خطابه. حيث أسهم التقديم والتأخير بالانحراف في نظام الجملة عن ترتيبها المألوف إلى تراکيب جديدةٍ، فأنشأ دلالاتٍ وإيحاءاتٍ متنوعةً أشير إليها في موضعها. کما ساهم أسلوب الحذف في إنتاج الدلالة وإبداعها، فاستطاع الشاعر من خلال هذا المتغير الأسلوبي تحقيق الغايات والدلالات التي رامها، وتلبية المقتضيات التي تطلبتها شعرية الکلام، کما تمکن بواسطته من إشراک المتلقي في العملية الإبداعية من خلال الدفع به إلى إعمال ذهنه في تقدير المحذوف. أما الالتفات فسعى إلى الکشف عن أنماط العلاقات المتنوعة بين النصوص، وإثارة عواطف المتلقي، وجاء في الغالب لغايات وأغراض يريد إيصالها الشاعر للمتلقي عبر هذا الأسلوب.