القيم غير المعرفية و إشکالية الموضوعية في العلوم الطبيعية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

قسم فلسفة - کلية البنات - جامعة عين شمس

المستخلص

 
وقد حاول الباحث من خلال هذا البحث أن يجيب عن بعض التساؤلات التي تنطوي عليها الإشکالية الأساسية لهذا البحث والتي يمکن صياغتها في: کيف يمکن القول بموضوعية العلوم الطبيعية - التي تتنافى مع وجود أية نزعات ذاتية - حال ثبوت أحکاماً معيارية يصدرها الباحث؟ وهذه التساؤلات هي على النحو التالي:
1 - إذا کانت القيم غير المعرفية (الأخلاقية أو القيم النفعية التقنية) - في مقابل القيم المعرفية (العلم لأجل العلم أو المعرفة لأجل المعرفة) - تشکّل دوافعاً لا يمکن تجاهلها لممارسة النشاط العلمي، ألا يُخل هذا الأمر باشتراطات الموضوعية، وبالتالي يفسح المجال أمام الاعتبارات الذاتية، ويعطيها دورها في الممارسات العلمية؟
2 – إذا کان الباحث في العلوم الطبيعية يقبل بعض الفروض أو يرفض بناءً على قيمه الأخلاقية التي تجعله يستشعر خطورة بعض الفروض فيسعى إلى درجات عالية من التدليل قبل قبولها، أو قد يستبعدها ويقبل أخرى على أساسٍ من عدم خطورتها. ألا يصدر الباحث بهذا أحکاماً معيارية ترتکز على ما ينبغي أن يکون لا على ما هو کائن؟
3- إذا کان حساب الغاية من الفعل المقرر سلفاً يُعدُّ سبباً وجيهاً للتفسير من قِبَل الباحث في علوم البيولوجيا (التعليل الغائي أو الوظيفي في الأنساق البيولوجية)، ألا يعد هذا (أيضاً) إصداراً لأحکامٍ معيارية ترتکز على ما ينبغي أن يکون لا على ما هو کائن؟
 
وعليه فإن أهم أهداف الباحث هي محاولة الکشفعن الخلفيات و الدوافع والقيم غير معرفية في بنية الممارسات المعرفية في العلوم الطبيعية، وذلک من خلال محاولة إبراز دور الأحکام المعيارية Normative Judgments کمقوّم معرفي هام في تصورات العلماء، وبالتالي في بنية النشاط العلمي، لذا سعى الباحث إلى لإثبات أنّها نزعات ذاتية متمثلة في اعتبارات قيمية أخلاقية أو نفعية، أو تفسيرات قصدية غائية من قِبَل العلماء. 
لقد أظهر البحث حقيقة الأحکام المعيارية التي يمکن أن تتخلل الممارسات العلمية في العلوم الطبيعية.فمعيارية أحکام العالم في رفضه وقبوله للفروض والنظريات العلمية، هي نتيجة تُثبت أن هناک قيماً غير معرفية تُشکِّلُ عوامل فعّالة في إصدار العالِم لأحکامه العلمية، حيث تبدو هذه القيم في مراعاة العالِم لمترتبات فروضه التي يفترضها، أو في قبوله للفروض، أو النظريات من حيث خيرها أو شرها أو خطورتها أو عدم خطورتها، بوصفه أنّه هو من يقبل ويرفض بناءً على هذه المعطيات التي تبدو له.
ذات الأمر ينطبق على علم البيولوجيا من بين سائر العلوم الطبيعية على وجه الخصوص، حيث أن الغاية من السلوک المُلاحظ من قِبَل العلماء في هذا المجال قد تُشکِّلُ عِلةً أو سبباً وجيهاً لديهم في تفسيراتهم العلمية، فهم قد يصادرون على هذه الغاية کمعيار في قبول أو رفض الفروض والنظريات.
وبناءً عليه يمکن القول: إن الموضوعية في العلوم الطبيعية هي عملية مقاربة فقط، أي عملية سعي من قِبَل الباحث على قدر الإمکان للوفاء بمتطلبات واشتراطات الموضوعية؛ ذلک أن وجود قيم أخرى من أي نوع (کالقيم الأخلاقية أو النفعية...إلخ)، کعوامل فعّالة في توجيه ممارساته المعرفية العلمية، تتعارض بلا شک مع متطلبات الموضوعية العلمية التي تشترط على الباحث الابتعاد عن أية نزعات أو تقديرات ذاتية عند ممارسته النشاط العلمي. إن قيمة الحقيقة العلمية التي ترام لذاتها لا من أجل أية اعتبارات أخرى ليست معرفية؛هي فقط ما تسمح به الموضوعية العلمية کموجه للباحث أثناء ممارسته للنشاط العلمي.
وأخيراً فإن الإنسان هو الإنسان لا يخرج من جلده ومن طابع وجوده، وأسلوب فاعليته أثناء البحث العلمي، لأنه وحدة لا تتجزأ، وهو نفسه الذي يبدع آثار الفن، أو ينشئ مذاهب الفلسفة، أو يبحث ظواهر الطبيعة، وما يصدق على فاعليته هنا يصدق عليها هناک. وهو هو سواءً أکان باحثاً في العلوم الإنسانية أو الطبيعية. کما أن النشاط العلمي سواءً أکان في العلوم الإنسانية أو الطبيعية شأنه شأن سائر المناشط البشرية المعرفية الأخرى لا يجب أن نصفه بالموضوعية واليقين المطلقين، وأن نُعلي من شأنه (کما فعل الوضعيون) في مقابل الحط من شأن أنشطة معرفية کالفلسفة بحجة عدم يقينها وموضوعيتها وتسرّب الأحکام الذاتية إليها.