دور فلاسفة التنوير فى قيام الثورة الفرنسية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

قسم الفلسفة - کلية البنات - جامعة عين شمس

المستخلص

تعتبر الثورة الفرنسية من أهم الثورات الکبرى فى التاريخ ،  لأن تأثيرها لم يقتصر على فرنسا فحسب ، وإنما شمل کل أنحاء أوروبا والعالم .
الثورة الفرنسية (بالفرنسية (Révolution Française ، لقد اندلعت فى الرابع عشر من يوليو (تموز) عام 1789م ، وامتدت حتي عام 1799 م ، حيث کانت فترة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية ، والتي أثرت بشکل بالغ العمق على فرنسا خاصة وأوروبا عامة ، وإنهار من خلالها النظام الملکى المطلق فى غضون ثلاث سنوات ، والذى کان قد حکم فرنسا لعدة قرون ، وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحول مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والارستقراطية والدينية وبروز الجماعات اليسارية الراديکالية إلى جانب بروز عموم الجماهير وفلاحي الريف، فى تحديد مصير المجتمع، کما تم خلالها رفع ما يعرف بمبادئ التنوير، وهي المساواة والعدالة والحقوق والمواطنة والحرية والديمقراطية ومحو الأفکار التقليدية للطبقة الارستقراطية والدينية([1])، حيث برزت فيها نظرية العقد الاجتماعي لجان جاک روسو، الذى يعتبر منظر الثورة الفرنسية وفيلسوفها فى السنوات الخمس والسبعين التالية للثورة، بالإضافة إلى أثر فولتير ومونتسکيو،وقد أثر هؤلاء جميعًا تأثيرًا کبيرًا على الشعب الفرنسي الذى قام بالثورة ، ولذلک نستطيع أن نعتبر أن الثورة الفرنسية وليدة فکر الأنوار ولفترة طويلة اعتبرت نموذج ثورى للشعوب ضد الطغيان والملکية الاستبدادية وأنظمة الحکم الفردي.
کذلک نجد أن هناک عدة تقلبات حدثت فى الحکومة الفرنسية بين الجمهورية والدکتاتورية والدستورية والإمبراطورية ، إلا أن الثورة فى حد ذاتها شکلت حدثاً مهماً فى تاريخ أوروبا،  وترکت نتائج واسعة النطاق من حيث التغيير والتأثير فى الدول والشعوب الأوروبية، حيث کان شعارها الحرية والإخاء والمساواة ، کما استندت إلى دستور ينص على الحقوق الفردية ،  وإعلان قيام دولة المؤسسات متمثلة فى الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية التي نادى بها مونتسکيو، ومؤکدة على حقوق الأفراد وواجباتهم ، والحرية فى الاعتقاد مستندة إلى التسامح الذى نادى به فولتير.
أن أفکار فلسفة التنوير فى القرن الثامن عشر ، هي التي کانت الحافز الذى دفع الشعب الفرنسي للقيام بثورته العارمة، ولکن يجب معرفة معالم عصر التنوير، أى بمعني ما هو عصر التنوير؟
يقول کانط أن التنوير هو خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلى وبلوغه سن الرشد ، کما عرف القصور العقلى على أنه " التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفکير الشخصي أو السلوک فى الحياة أو اتخاذ أى قرار بدون استشارة الشخص الوصى عليه"، ومن هنا جاءت صرخته التنويرية (اعملوا بعقولکم ايها البشر، لتکن لکم الجرأة على استخدام عقولکم ، فلا تتواکلوا بعد اليوم للکسل أو القدر والمکتوب ، تحرکوا وانشطوا فى الحياة بشکل ايجابي ، فالله زودکم بالعقل وينبغي أن تستخدموه([2])).
          أن التعريف التنويرى للعقل بعيد عن التعريف التقليدي الذى يغلبه التأمل ، هو الآن التصور التوظيفي والفني ، وإثبات صلاحيته بالنتائج العلمية التي يحققها ، أن العقلانية صالحة إذا کانت قادرة على شرح وترتيب الأحداث استناداً إلى قوانين النظام العقلاني ، کما کان عصر التنوير فى أوروبا ملهماً للعديد من الثورات الاجتماعية والسياسية وما نتج عنها من أفکار عقلانية ، حيث ارتکز قيام الدولة على وجود بيروقراطية أسفرت عن قيام دولة حديثة فى القرن الثامن عشر([3]).
وفى فترة ما قبل الثورة الفرنسية ،  نما شعور معارض للوضع الاجتماعي القائم الذى کان منافياً للعقل ومضاداً للطبيعة ،  ومعرفة الوسائل الفعالة فى السياسة، والشعور بقيمة الإنتاج، ولذلک کان فى نهاية القرن الثامن عشر ترکيزاً على الفکر الإنساني والإنسانية([4]).
أن لکل إنسان ، حقوق مطلقة ، فى أى لحظة من الزمن وفى أى مکان فى العالم ، فله حقوق طبيعية معينة وجدتمعه، کحق العيش وألا يعرقل نشاطه، والدولة هي شراکة بين الأشخاص الذين يعيشون فيها ، ولذا لابد من تنظيم جماعى ينظمهم تحت قانون ، ولذلک فإن هذه الحقوق تزودنا بحاجة الجماعة([5]).
لذلک يجب أن يکون الناس أحراراً متساوين ، وهذا ما يجعلهم سعداء ، ولذلک تجد الثورة الفرنسية أساسها العقائدى فى حقوق الإنسان([6]).
وقد ينتج عن الثورة فى نهاية المطاف معتقد ، ولکنها تنشأ فى الغالب عن عوامل عقلية ، کالقضاء على ظلم فادح أو استبداد ممقوت أو ملک يبغضه الشعب ، ومع أن العقل هو أصل الثورة ، فإن الأسباب التي تُهيئها لا تؤثر فى الجماعات إلا بعد تحولها إلى عواطف ، فنجد الثورة الفرنسية ترى أن المنطق العقلى الذى نادى به الفلاسفة هو الذى اظهر مساوئ النظام القديم ، وجعل فى قلوب المواطنين ميلاً إلى تبديله وهذا الفکر استحوذ على الأندية والمجالس ، وان الثورة لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها فى روح الجماعة ، فالجماعة تتم الثورة ، ولا تکون مصدرها([7]).
وإذا حاولنا أن نجد لفلسفة الثورة الفرنسية مکاناً فى تطور الأفکار الفلسفية عبر التاريخ ، نرى أنها تمثل مرکباً بين نظرية للحق الطبيعي ، ومبادئ حملها إليها القرن الثامن عشر، فقد سبقت فکرة الحق الطبيعي التى  ظهرت لدى فلاسفة العصور الوسطي نظرية الحق الألهي حيث يجب على الجميع طاعته بما فيهم الملک والبابا والشعب، واستمرت هذه الأفکار حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر([8]).
لذلک تمثل الثورة الفرنسية تطور الحق الطبيعي، سواء بإبرازها مبدأ الحق العام لصالح الجميع ، وعدم قابلية حقوق الإنسان إلى أن يتنازل عنها ، ولذلک اکتسب مبدأ الحق أثناء الثورة الفرنسية معني جديدًا تمامًا من خلال تطبيق المبادئ فى الحياة العامة([9]).
أثر أهم فلاسفة التنوير فى قيام الثورة الفرنسية:
أن السؤال الذى يفرض نفسه فى هذا الصدد ، هو: هل هناک علاقة بين الفکر والثورات أى بين التغير الفکرى والتغير السياسي؟ وبمعني أخر، هل الثورة الفکرية، هى التي تصنع الثورة السياسية ام العکس ؟ هل فکر التنوير هو الذى صنع الثورة الفرنسية؟
للإجابة عن هذه التساؤلات ، يمکن توضيح ذلک من خلال، أولاً ، إجابة کلاسيکية بديهية حتمية تقول إن التنوير هو الذى صنع الثورة الفرنسية ، وبناء على ذلک تکون الثورة نتيجة والتنوير سببًا ، والإجابة الثانية، جدلية ديناميکية ، لا تنکر دور التنوير فى صنع الثورة ، لکن فى نفس الوقت تقول بالدور الذى لعبته الثورة الفرنسية فى تلميع وإبراز أعلامها من التنوير من الکبار([10]).
أن الرؤية الکلاسيکية السائدة فى کل فرنسا، ترى أنه لولا التنوير ما کانت هناک ثورة ، وأن فلسفة التنوير هي التي ولدت الثورة ، وقد ذکر ذلک المؤرخ دانيل مورنيه، فى کتابه (الأصول الفکرية للثورة)، حيث يقول، بأنه لولا الثورة الفکرية التي أحدثها فلاسفة التنوير فى العقول لما کانت الثورة الفرنسية ، فالتنوير هو الذى أوجد الثورة، وهذا ما أکده فلاسفة ومثقفو فرنسا من خلال تفکيک دور الکنيسة الکاثوليکية وکل الأفکار المتعصبة التي کانت تبثها الکنيسة فى المجتمع ، ولولا هذا التفکيک لما کانت هناک ثورة أطاحت بالنظام الملکي الاستبدادي المطلق ، الذى کان يستمد قوته من الکنيسة ، فالتغيير لم ينجح سياسياً إلا بعد نجاحه فکرياً([11]).
أن أصول الثورة الفکرية التي تدل عليها الأيديولوجيات ، ينبغى البحث عنها فى الفلسفة التي هيأت البرجوازية منذ القرن السابع عشر ، حيث عرض فلاسفة القرن الثامن عشر مبادئ النظام الجديد ، وهم ورثة فکر ديکارت ، الذى أظهر إمکانية السيطرة على الطبيعية بواسطة العلم ، لقد أثرت الحرکة الفلسفية على العقل الفرنسي تأثيراً عميقاً ، حيث أيقظت فيه روح النقد بأفکار جديدة معارضة للکنيسة والدولة المستبدة ، فأحلت "الأنوار" فى سائر المجالات مبدأ العقل محل التسلط والتقليد ، لقد أعلنت مدام لامبر (1647-1733) ، أن الفلسفة هي إعادة الاعتبار للعقل ، واستعادة حقوقه ، أى إعادة کل شئ إلى مصدره الذاتي وطرح نير الرأى العام دون التسلط([12]).
وفى هذا المقال نتناول بالدراسة أهم الفلاسفة الذين کان لهم الدور الفاعل فى تنوير الشعب الأوروبي بصفه عامة والشعب الفرنسي بصفة خاصة في عام 1789م، وهم فولتير ومونتسکيو وروسو ، فى محاولة لإبراز أثرهم وأفکارهم وأطروحاتهم فى بنى الثورة ، ومبادئها ، مثل دور فولتير فى مفهوم التسامح وأثره فى الثورة الفرنسية ومذهب الحرية فى کتابات روح الشرائع لمونتسکيو ، وتأثير ذلک فى واقع الثورة وتمجيدها للعقل ، ثم نوضح أفکار روسو ومفاهيمه للإنسان الطبيعي وتوضيح دور هؤلاء الفلاسفة فى الحرية والحق والمساواة والدستور فلنتناول هؤلاء الفلاسفة بشئ من التفصيل.



([1]) Donald Greer, the incidence of the terror during the French revolution: A statistical interetation , 1935, p:10.


([2])ف. فولفين ، فلسفة الأنوار ، ترجمة هنرييت عبودي ، مراجعة جروج طرابيشي ، الطبعة الأولى ، (بيروت ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، 2006)، ص 60.


([3]) المرجع السابق ،   ص 60.


([4]) برنار غروتويزن ، فلسفة الثورة الفرنسية ، ترجمة عيسى عصفور ، الطبعة الأولى ، (بيروت – باريس ، منشورات بحر المتوسط ومنشورات عويدات ، 1982)، ص 131.


([5]) المرجع السابق ، ص 132.


([6]) المرجع السابق ، ص 133.


([7]) غوستاف لوبون ، الثورة الفرنسية وروح الثورات ، ترجمة عادل زعيتر (لبنان ، بيروت ، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، 2013) ، ص 23.


([8]) برنار غروتويزن ، فلسفة الثورة الفرنسية ، مرجع سابق ، ص 207.


([9]) المرجع السابق ، ص 212.


([10]) J.M. Thompsons the French revolution (1945): N. Hampton, P: 40.


([11]) Calson, Marvin , the theatre of the French revolution , Ithaca, N.Y. Cornell university press, 1966. P:30.


([12]) ألبير سوبول ، تاريخ الثورة ، الفرنسية ، مرجع سابق ، ص 54.