نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
قسم اللغة العربية- کلية البنات- جامعة عين شمس
المستخلص
الكلمات الرئيسية
الموضوعات الرئيسية
المقدمة :
تعد الروایة من الأنواع الأدبیة الحدیثة نسبیًا ، حیث تعود جذورها الأولى فى الأدب الأوروبى إلى الملحمة فى القرن التاسع عشر ، کما نجد فى ملحمتى "الإلیاذة والأدویسا " لهومیر ، بینما تعود نشأتها فى الأدب العربى إلى القرن العشرین مع ظهور روایة " زینب " لمحمد حسنین هیکل عام 1914م ، التى سیطرت علیها الرؤیة الرومانسیة ، ولکن نظرًا لأن الروایة تعد من أهم الأجناس الأدبیة التى یمکن بها نقل الأفکار والرؤى المختلفة ، کما تهتم بتصویر الواقع المعیش ، وما یشوبه من عواصف ، وتقلبات سیاسیة ، واجتماعیة ، واقتصادیة ، وبخاصة الأحداث ، و القضایا السیاسیة العدیدة التى اهتمت بإبرازها الروایة المعاصرة من حیث تأثیرها على نفسیة الناس وحیاتهم ، ومن هنا ظهرت العلاقة الوثیقة التى ربطت بین الفن والسیاسة ؛ فقد استطاعت الروایة من خلال هذا التلاحم بینها وبین السیاسة أن تخلق نوعًا من الروایة یطلق علیه النقاد مصطلح الروایة السیاسیة ، ذلک النوع من الروایة هو الذى " تلعب فیها الأفکار السیاسیة الدور الغالب أو التحکمى ، وهى ذلک النوع من الروایة الذى تنفصل فیه فکرة المجتمع عن مجرد أعمال المجتمع التى لا یُسأل عنها ، والتى وصلتْ إلى لا شعور الشخصیات بکل مظاهرها العمیقة المثیرة للمشاکل ، لدرجة أنها تُلاحظ فى تصرفاتهم . وهذه الشخصیات نفسها دائمًا واعیة بانتماء أو تماثل أیدیولوجى سیاسى متناغم ، وهى تفکر على أساس تأیید أو مجابهة المجتمع "(1) ، لذلک اتجه معظم کتاب الروایة فى المرحلة المعاصرة نحو" نقد المجتمع من أجل الإصلاح والنهضة والتقدم من خلال تقدیم نماذج إنسانیة مأزومة ، تعکس حرکة المجتمع وبعض قضایا الواقع "(2)، وذلک باستخدام العدید من التقنیات السردیة الفنیة والبلاغیة ، ومن أبرز تلک التقنیات فى الروایة العربیة تقنیة " الحلم " باعتبارها نوعًا من التجدید فى الأدب بشکل عام سواء فى الفن القصصى أم الروائى ، وذلک لارتباطها بالتحولات السیاسیة والاجتماعیة الطارئة على المجتمع ، کما أن الأحلام تعد أحد النوافذ التى یتمرد من خالها الإنسان على الواقع المعیش ، ویتطلع لمستقبل أفضل یرید الوصول إلیه ، لذلک یعد من أهم وظائف الحلم البلاغیة داخل الروایة المعاصرة هى الإزاحة أى أن الحلم " یمتلک قوة قادرة على إزاحة هموم الواقع الردئ الذى عاشته الشخصیة الفنیة قبل النوم ، وهذا الواقع یشکل ضغطًا على کاهل الشخصیة ، وفى داخلها ، ولذا تجب إزاحته "(3).
وبالنظر إلى مفهوم الحلم لغویًا نجده معبرًا عن الرؤیا المنامیة ، " حلم : الحُلْمُ والحُلُم : الرُّؤْیا ، والجمع أَحْلام ، وحَلَمَ به وحَلَمَ عنه وتَحَلَّم عنه : رأَى له رُؤْیا أَو رآه فى المنام ، والرؤْیا والحُلْمُ عبارة عما یراه النائم فى نومه من الأشیاء ، ولکن غَلَبت الرؤیا على ما یراه من الخیر والشئ الحسن ، وغلب الحُلْمُ على ما یراه من الشر والقبیح . " (4)، ومن هنا یتضح لنا أن الحلم " تعبیر عن أى نشاط نفسى روحى فى حالة النوم وله معناه ومدلوله . "(5)، ویتفق هذا التعریف مع نظرة علماء النفس للحلم ، وتفسیرهم لطبیعته ، حیث یرى سیجموند فروید أن الأحلام "لون من النشاط النفسى یصدر عن النائم بحسب الظروف التى یکون علیها فى نومه "(1)، کما یقول " إن الحلم یتناول بعض الأحداث التى تبقت من نشاطنا الیومى ، فیستخدمها کما یستخدم عامل المطبعة الحروف المتناثرة لیؤلف منها وحدة متکاملة ولیس من الضرورى أن یتم هذا التألیف فى أثناء النوم ، بل لیس ما یمنع أن یکون هناک تیار فیما قبل الشعور لا نعنیه فى أثناء الیقظة یجمع تلک الشتات ویداول بینها حتى إذا حانت ساعة النوم بدأ العرض السحرى . "(2)
أما عن وظائف الحلم فى الروایة فیُعد تکنیکًا یمکن من خلاله الکشف عما یعتمل فى نفوس الشخصیات الروائیة من مشاعر سلبیة مثل إحساسهم بالقهر ، والألم ، والانکسار ، والتمرد نتیجة تمزق الواقع السیاسى والاجتماعى المحیط بهم ، کما ینبأ أیضًا فى بعض الأحیان عن بعض المشاعر الإیجابیة من التمسک بالأمل والبحث عن مستقبل أفضل ، لذلک یعده النقاد " وسیلة تنفیسیة لإزاحة الواقع المعین للشخصیات الفنیة "(3)، کما یتخذه بعض الأدباء قناعًا یعبرون به عن أفکارهم ، ومواقفهم ، وتصوراتهم حول القضایا المتعلقة بالسیاسة ، والسلطة ، والتقالید الاجتماعیة الموروثة ، وذلک لأن الأحلام تعتمد فى لغتها على صیغ فنیة إیحائیة ، ورمزیة یمکن التعبیر من خلالها عمّا لا نستطیع التصریح به ، على عکس لغة السرد العادیة التى تعد لغة تقریریة مباشرة ، کما نجد أن الأحلام من الناحیة الفنیة تسهم فى تحویل مجرى السرد الروائى ، وتزید من عمقه الدلالى .
وبما أن " النوم والیقظة قطبا الوجود الإنسانى "(4)، لذلک نجد أن السید حافظ قد عمد إلى استخدام الحلم فى روایاته(5)، وبخاصة حلم المنام الذى ظهر بشکل واضح فى روایاته بخلاف حلم الیقظة الذى قل ظهوره ، لذلک یمضى هذا البحث فى ظاهرتین :
الظاهرة الأولى : إزاحة الواقع بالحلم المنامى .
الظاهرة الثانیة : إزاحة الواقع بحلم الیقظة .
الظاهرة الأولى : إزاحة الواقع بالحلم المنامى:
یتکون الحلم المنامى فى أثناء انتقال الشخصیة من وعیها الیقظ إلى منطقة اللّاوعى تلک المنطقة التى تتداعى فیها الأفکار ، والصور المختلفة ، والذکریات فى ذهن الشخصیة الحالمة فى أثناء نومها ، کما تتداعى العدید من الأحاسیس ، والمشاعر، و الرموز المختلفة التى یصعب على الحالم تفسیر معناها أو المغزى منها فى بعض الأحیان لما تملکه هذه الرموز من دلالات عدة متعلقة بالذات الداخلیة ، والخارجیة للشخصیة الحالمة ، کما أن هذه الرموز تکون فى معظم الأحیان عبارة عن خیالات ربما یتذکرها الحالم عند الاستیقاظ أو ینساها ، حیث إن الشخصیة الحالمة " تحلم أثناء النوم بحادثة أو موقف أو موضوع أو إنسان ما فتشعر الشخصیة النائمة بحالات : الإحباط و الحزن والتعاسة والألم ، وبحالات : الأمل والسعادة والفرح . وتظهر علامات هذه الحالات بنوعیها على وجه الشخصیة وتبدو فى ملامحها عقب الاستیقاظ من النوم ، وربما تنساها الشخصیة بعد لحظات ، وربما تبقى فى ذاکرتها بعض الوقت ، أو تبقى بها الشهور والأعوام . " (1)
وبالنظر إلى وظیفة الحلم المنامى البلاغیة داخل العمل الأدبى سواء أکان روایة أم قصة ؛ نجده عبارة عن " مظهر فنى لانحراف مؤقت للسرد الوصفى لمنطقة الوعى إلى منطقة اللاوعى للکشف عما یزخر بها من تداعیات دالة على انبساط باطن الشخصیة وانقباضه فى أثناء الحلم "(2)
وقد وظف الکاتب الحلم المنامى فى روایاته للتعبیر عن العدید من القضایا و الأفکار والمضامین السیاسیة الذى ناقشها داخل روایاته ، التى یتضح من خلالها رغبته فى التخلص من واقع اجتماعى وسیاسى ألیم عاشته مصر والأمة العربیة بشکل عام ، وحالمًا بمستقبل أفضل لوطنه ، لذلک استعان الکاتب بتقنیة الحلم لأن الحلم یمتلک " خاصیة الإزاحة بمعنى إبعاد واقع ردئ تأباه الشخصیة وتود التحرر من سطوته . والتخلص من وطأته "(3)، فنجد أن الکاتب قد استغل هذه القوة الإزاحیة للتعبیر عن رغبات الشخصیات الحالمة داخل روایاته ، وبناء على ذلک تتکون هذه الظاهرة من نوعین :
النوع الأول : إزاحة الواقع بحلم خاضع لرغبة فى الاستبدال .
النوع الثانى : إزاحة الواقع بحلم راغب فى تخلیص المجتمع من بعض الظواهر
الفاسدة .
النوع الأول : إزاحة الواقع بحلم خاضع لرغبة فى الاستبدال :
فقد وظف الکاتب الحلم داخل روایاته بغرض إزاحة واقع سئ یرید التخلص منه واستبداله ، والتطلع لعالم یبغى أن یعیشه ویحقق فیه ما لم یستطع تحقیقه فى الماضى ، کما نجده فى بعض الأحیان یهدف عن طریق الحلم إلى إزاحة زمن آنى واستبداله بزمن ماضى للکشف عن فترة تاریخیة کانت أفضل من الواقع المعیش ، لذلک نجد أن الإزاحة عن طریق الاستبدال قد جاءت فى الروایات على مستویین :
المستوى الأول : الإزاحة بحلم خاضع لرغبة فى استبدال واقع بآخر .
المستوى الثانى : الإزاحة بحلم خاضع لرغبة فى استبدال زمن بزمن .
المستوى الأول : الإزاحة بحلم خاضع لرغبة فى استبدال واقع بآخر :
عندما تتداعى کوابیس الواقع على الإنسان نجده یهرب إلى الحلم ، لذلک لجأ الکاتب إلى الحلم المنامى فى روایاته للتعبیر عن هروب شخصیات روایاته من واقعهم الردئ ، وبناء واقع جدید فى أحلامهم ؛ فیربط بذلک بین عالمى الشخصیة الداخلى والخارجى ، وقد ظهر حلم المنام فى روایة " لیالى دبى (شاى بالیاسمین)" عندما استغرق "فتحى رضوان " فى النوم ، وحلم بالرئیس السابق " جمال عبد الناصر " :
" أما الصدیق المخرج محمود أبو العباس قابلنى بترحاب ودعانى على عشاء فاخر فى دبى .. دبى مدینة الخیال والهروب من الأحزان وقال:
عیونى فتحى سأجد لک عملا فى قناة عراقیة وسأجد لک عملًا فى مرکز الطفولة لمسرح الطفل .... وعدنى بایجاد عمل فورًا .. غدًا وأخذ رقمى ثم هرب .. لا یرد على هاتفى .. لایتصل بى .. نمت حزینًا فى الشارقة فى غرفة یسکنها خمسة أفراد من جنسیات عربیة مختلفة ... جاءنى جمال عبد الناصر فى المنام ، وجدته حزینًا ، قلت له :
ما بک ؟
قال جمال عبد الناصر : لو أن أحد سألنى فى تلک الأیام ، ما أعز أمانیک ؟ لقلت له على الفور : أن أسمع مصریا یقول کلمة إنصاف فى حق مصرى آخر . وأن أحس أن مصریّا قد فتح قلبه للصفح والغفران والحب لإخوانه المصریین . وأن أرى مصریا لا یکرس وقته لتسفیه آراء مصرى آخر ، وأن لا أرى بعد ذلک أنانیة فردیة مستحکمة .. کأن کلمة "أنا " على کل لسان .... کانت هى الحل لکل مشکلة ، وهى الدواء لکل داء ، وکثیرا ما کنت أقابل کبراء – أو هکذا تسمیهم الصحف – من کل الاتجاهات والألوان ، وکنت أسأل الواحد منهم عن مشکلة ألتمس عنده حلا لها ، فلم أکن أسمع إلا " أنا " .. مشاکل الاقتصاد " هو " وحده یفهمها ، أما الباقون جمیعًا فهم فى العلم أطفال یحبون .. ومشاکل السیاسة " هو " وحده الخبیر ، أما الباقون جمیعًا فمازالوا فى " ألف باء " لم یتقدموا بعدها حرفًا واحدًا .... أذکر مرة کنت أزور فیها إحدى الجامعات ودعوت أساتذتها وجلست معهم أحاول أن أسمع منهم خبرة العلماء . وتکلم أمامى منهم کثیرون ... وتکلموا طویلا .. ومن سوء الحظ أن أحد منهم لم یقدم لى أفکارًا ، وإنما کل واحد منهم لم یزد على أن قدم لى نفسه ، وکفایاته الخلقیة وحدها تعمل المعجزات ، ورمقنى کل واحد منهم بنظرة الذى یؤثرنى على نفسه بکنوز الأرض وذخائر الخلود .. ! . وأذکر أنى لم أتمالک نفسى فقمت بعدها أقول لهم :
أن کل فرد یستطیع فى مکانه أن یصنع المعجزات ، إن واجبه الأول أن یعطى کل جهده لعلمه ، ولو أنکم کأساتذة جامعات فکرتم فى طلبتکم وجعلتموهم – کما یجب – عملکم الأساسى ، لأستطعتم أن تعطونا قوة هائلة لبناء الوطن .. إن کل واحد من یجب أن یبقى فى مکانه ویبذل فیه کل جهده . "(1)
یصف الکاتب فى النص الروائى المعاناة التى شعر بها فتحى رضوان فى رحلة بحثه عن
وظیفة مناسبة له فى دبى ، وکان من أهم اسباب تلک المعاناة هو تخلى صدیقه عنه بعد أن وعده بأنه سوف یوفر له عملًا فى إحدى القنوات العراقیة ، کما تخلى عنه أیضًا جمیع الناس الذى کان یعرفهم هناک مما تسبب له ذلک فى أزمة نفسیة ، وشعر بالحزن الشدید والحسرة على أحلامه التى انطفأت على أیدى أصدقائه ، وأدرک حینها أن سبب ذلک التخلى هو أن کلا منهم لا یفکر إلا فى ذاته ، و مصلحته الشخصیة فحسب ، فکل هذا الحزن والغضب الذى شعر بهما تجاه الواقع المحیط به خُزن فى ذاکرته أو وعیه الداخلى ، مما جعله یحلم بواقع جدید یرید أن یراه فى الحقیقه ویعیشه ، واقع ملئ بالحب بین الناس بعیدًا عن الأنانیة الفردیة التى أصبحت آفة منتشرة فى المجتمع المصرى .
وقد جاء هذا الواقع الجدید فى صورة حلم منامى رأى فیه " فتحى رضوان " الرئیس السابق " جمال عبد الناصر " حزینًا ، وعند حدیثه معه وجده یتمنى أن یتخلص المصریون من آفة "الأنا" ، وأن یرى الحب والتسامح والغفران ، واحترام الرأى الآخر خصال یتحلى بها المصریون ، فکل هذه السمات لو أصبحت سائدة فى المجتمع سیتمکن المصریون من بناء وطن قوى قادر على مواجهة المصاعب والأزمات التى یمر بهما .
فقد جسد الحلم سمات الواقع الجدید الذى یریده فتحى رضوان ، والتى لو وُجدت فى واقعه المعاش ما اضطُر لأن یترک وطنه وأهله ، ویشعر بکل هذا الحزن الذى واجهه فى غربته ؛ فحلم البطل فى النص السردى لیس إلا صدى لرغبته الشدیدة فى إزاحة واقع ألیم عانى منه کثیرًا ، وذلک لإحلال واقع آخر جدید خالِ من جمیع الآفات .
وقد ظهر حلم المنام فى الروایة نفسها " لیالى دبى ( شاى بالیاسمین ) " عن طریق شخصیة " فتحى رضوان " ، وحلمه مرة أخرى بالرئیس السابق " جمال عبد الناصر " ، وقد کان حلمه کالآتى :
" کل ما حولى ألوان من الفساد والحسد والغیرة والضلال .... نزلت إلى الشارع . أخذتها ونزلنا نظرت تهانى فى عینى وجدتها حمراء وکنت أقود السیارة وأقاوم البکاء .. قالت :
ما بک ؟
أنا بدون مصر هشیم ومصر بالنسبة لى هشیم وجحیم .
بکت تهانى لبکائى قالت :
لم أعرف عندما تزوجتک أن بداخلک کل هذا العذاب والألم من أجل مصر؟
وبداخلى أمل أیضًا ...
لماذا تبکین یازوجتى .
أرید أن أساعدک أن أجعلک سعیدًا ..
أحاول کل لحظة أن أقاوم وأشد اللون الأبیض من أعماقى .. أرجوک یا تهانى ساعدینى .. سرنا على کورنیش البحیرة فى الشارقة .. الخلیج حزین ؟ ذهبت إلى البیت ونمت .
جاءنى عبد الناصر فى المنام وجلس معى على المقهى وقال لى :
أرواحنا مازالت تعیش فى آثار القرن الثالث عشر ، وإن سارت فى نواحیها المختلفة سلوک القرن التاسع عشر ..
وأکمل عبد الناصر :
کانت عقولنا ، تحاول أن تلحق بقافلة البشریة المتقدمة التى تخلفنا عنها خمسة قرون أو یزید ، وکان الشوط ماضیًا والسباق مروعًا مخیفًا . وما من شک فى أن هذا الحال هو المسؤول عن عدم وجود رأى عام متحد قوى فى البلاد فإن الفارق بین الفرد والفرد کبیر والفارق بین الجیل والجیل شاسع . ولقد جاء على وقت کنت أشکو فیه من أن الناس لا یعرفون ماذا یریدون ، وأن اجتماعهم لا ینعقد على طریق واحد یسیرون فیه ، ثم أدرکت بعدها أننى أطلب المستحیل ، وأننى أسقط من حسابى ظروف مجتمعنا إننا نعیش فى مجتمع لم یتبلور بعد ، ومازال یفوز ویتحرک ولم یهدأ حتى الآن أو یتخذ وضعه المستقر ویواصل تطوره التدریجى بعد مع باقى الشعوب التى سبقتنا على الطریق .. وأنا أنظر أحیانًا إلى أسرة مصریة عادیة من آلاف الأسر التى تعیش فى العاصمة .
الأب مثلًا فلاح معمم من صمیم الریف ، والأم سیدة منحدرة من أصل ترکى و أبناء الأسرة فى مدارس على النظام الإنکلیزى ، وفتایتها فى مدارس على النظام الفرنسى . کل هذا بین روح الثالث عشر ومظاهر القرن العشرین . أنظر إلى کل هذا وأحس فى أعماقى بفهم للحیرة التى نقاسیها والتخبط الذى یفترسنا ، ثم أقول لنفسى :
سوف یتبلور هذا المجتمع ، وسوف یتماسک ، وسوف یکون وحدة قویة متجانسة ، إنما ینبغى أن نشد أعصابنا ونتحمل فترة الانتقال . تلک إذا هى الأصول التى انحدرت منها أحوالنا الیوم ........ ( اختفى جمال عبد الناصر ) "(1)
أعرب هذا الحلم المنامى عن رغبة " فتحى رضوان " فى إزاحة واقع یعانى منه المصریون نظرًا لما یشوبه من تفرقة وتشتت بین أفراده ، واستبداله بواقع جدید یتمیز بالتماسک والوحدة والتجانس بین أفراده ، وقد ظهر ذلک فى الحلم من خلال تنبؤ الرئیس " جمال عبد الناصر " بأن المجتمع المصرى سوف ینهض ، ویتبلور ویستقر عن طریق جمع الشعب المصرى ووضعه على طریق واحد صحیح ، فالمجتمع لا ینهض إلا بأیادى أفراده ، کما أظهر الحلم أن الحریة السیاسیة والاقتصادیة إحدى السبل لتحقیق هذا الواقع المتماسک الذى یحلم به فتحى رضوان وغیره من المصریین .
وقد نجد أن الکاتب ارتد فى الحلم إلى الماضى – القرن التاسع عشر – لیُظهر أن حلم تطور المجتمع وتماسکه راود عقول المصریین منذ فترة زمنیة لیست بالقصیرة ، وعلى الرغم من أن تحقیق ذلک الحلم بشکل کلى قد تأخر کثیرًا ، فإنَّ الأمل فى تحقیقه مازال قائمًا، وقد ظهر ذلک فى الحوار الذى دار بین فتحى رضوان وزوجته تهانى فى نفس اللیلة التى رأى فیها فتحى رضوان ذلک الحلم :
" لم أعرف عندما تزوجتک أن بداخلک کل هذا العذاب والألم من أجل مصر؟
وبداخلى أمل أیضًا ... أحاول کل لحظة أن أقاوم وأشد اللون الأبیض من أعماقى .. "(2)
فقد أظهر الحوار الذى دار بینهما أن الحزن الشدید الذى یسکن قلب فتحى رضوان على حال وطنه کان ممزوجًا بالأمل بأن وطنه سیسیر على الطریق الصحیح ، وأن شعبه سوف یلحق بالبشریة المتقدمة ، مما جعل ذلک الأمل یُخزن فى اللّاوعى ، ویظهر فى صورة حلم منامى لیفصح عن رغبته فى تحقق آماله وأحلامه .
وقد تکرر حلم البطل " فتحى رضوان " بالرئیس " جمال عبد الناصر " فى الروایة نفسها "لیالى دبى ( شاى بالیاسمین ) " ، ویتضح ذلک من خلال السرد الروائى التالى :
" قال لى عبد الناصر فى المنام :
ولقد وقفت أمام الکعبة وأحسست بخواطرى تطوف بکل ناحیة من العالم وصل إلیها الإسلام ثم وجدتنى أقول لنفسى : یجب أن تتغیر نظرتنا إلى الحج ، لا یجب أن یصبح محاولة الذهاب إلى الکعبة تذکرة لدخول الجنة بعد عمر مدید أو محاولة ساذجة لشراء الغفران بعد حیاة حافلة . یجب أن یکون الحجیج قوة سیاسیة ضخمة ، ویجب أن تهرع صحافة العالم إلى متابعة أنبائه ، لا بوصفه مراسم وتقالید تصنع صورة طریفة لقراء الصحف وإنما بوصفه مؤتمراً سیاسیاً دوریاً یجتمع فیه کل قادة الدول الإسلامیة ورجال الرأى فیها وعلماؤها فى کافة أنحاء المعرفة وکتابها وملوک الصناعة فیها وتجارها وشبابها لیضعوا فى هذا البرلمان الإسلامى العالمى خطوطاً عریضة لسیاسة بلادهم وتعاونها معه ، حین یحین موعد اجتماعهم من جدید بعد عام . یجتمعون خاشعین .. لکن أقویاء ، متجردین من المطامع .... الکل عاملین ، مستضعفین لله .. ولکن أشداء على مشاکلهم وأعدائهم ، حالمین بحیاة أخرى ... ولکن مؤمنین أن لهم مکانا تحت الشمس یتعین علیهم احتلاله فى هذه الحیاة .
وأذکر أنى قلت بعض خواطرى هذه لجلالة الملک سعود فقال لى الملک أن هذه هى فعلاً ، الحکمة الحقیقیة من الحج .
وفى الحق أنى لا أستطیع أن أتصور للحج حکمة أخرى . حین أسرح بخیالى إلى ثمانین ملیون من المسلمین فى إندونسیا وخمسین ملیون فى الصین ، وبضعة ملایین فى الملاوى وسیام وبورما ، ومایقرب من مائة ملیون فى الباکستان وأکثر من مائة ملیون فى منطقة الشرق الأوسط ، وأربعین ملیون داخل الاتحاد السوفیتى ، وملایین غیرهم فى أرجاء الأرض المتباعدة حین أسرح بخیالى إلى هذه المئات من الملایین الذین تجمعهم عقیدة واحدة ، أخرج بإحساسى الکبیر بالإمکانیات الهائلة التى یمکن أن یحققها التعاون بین هؤلاء المسلمین ، تعاون لا یخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصلیة بالطبع ، ولکنه یکفل لهم ولإخوانهم فى العقیدة قوة غیر محدودة .سکت عبد الناصر وقام واختفى .. استیقظت من النوم .. وشربت شربة ماء "(1)
أعرب الحلم المنامى عن رغبة فتحى رضوان فى إزاحة واقع التفکک والفرقة بین الأمة العربیة ، واستبداله بواقع یتسم بالاتحاد والتعاون السیاسى والتجارى فیما بینهم ، ذلک الاتحاد الذى یجعلهم قوة عظیمة على الأرض یهابها الجمیع ویخشاها، حیث إن تلک القوة تجعلهم قادرین على هزیمة أعدائهم ، والتخلص من کافة المشاکل التى تعانى منها بلادهم أهمها تحکم دول الغرب فى سیاستهم واقتصادهم .
وقد ظهرت تلک الرغبة فى إزاحة هذا الواقع الألیم الذى تعانى منه کافة الدول العربیة من خلال حلم فتحى رضوان بالرئیس جمال عبد الناصر ، والذى أفصح فیه عن فکرته ورغبته فى أن یکون للحج أهدافٌ عدیدة سیاسیة وتجاریة ، وألّا یقتصر على الهدف الدینى فحسب ، بل من الممکن استغلال ذلک الحدث الذى یتکرر کل عام بأن یکون بمثابة اجتماعِ سیاسیِ لکافة قیادات العرب من رؤساء وعلماء وأدباء وشباب وغیرهم ؛ لوضع خطة سیاسیة موحدة یستطیعون بها التغلب على المشاکل التى تواجههم ، وبناء الوطن العربى بشکل صحیح وقوى ، لأن العرب باتحادهم یستطیعون تحقیق ذلک وأکثر ؛ فنجد أن الحلم هنا جاء معبرًا عن أمنیة فتحى رضوان فى أن یجتمع العرب على خطة سیاسیة موحدة تسیر علی أسسها ومبادئها کافة الدول العربیة ، کما اجتمعوا على دین واحد وعبادة رب واحد ، کما جاء عاکسًا لصورة الواقع الجدید الذى تتمناه الشخصیة الحالمة .
المستوى الثانى : الإزاحة بحلم خاضع لرغبة فى استبدال زمن بآخر :
یهدف الحلم المنامى هنا إلى الإزاحة أیضًا ، ولکن رغبة الکاتب فى توظیف الأحلام هنا تختلف عن رغبته فى توظیف الأحلام السابقة ، حیث یرغب فى هذه الحالة فى إزاحة زمن آنى وإحلال زمن ماض بدلا منه کان واقعه السیاسى أفضل بکثیر من الواقع السیاسى الذى تعیشه الشخصیات الروائیة ؛ فکانت الأحلام هنا بمثابة هروب تلک الشخصیات من الزمن الحالى ، وتمنى الرجوع إلى زمن ماض مغایر له أو مختلف عنه من الناحیة السیاسیة ، وقد انتمى إلى ذلک الهدف من الأحلام المنامیة ما حدث فى روایة " لیالى دبى (شاى بالیاسمین ) " عندما شاهد فتحى رضوان فى منامه الملک فؤاد :
" النور فى روح شعبنا اختفى وأنا الخفى الرائى .. لا تجعلونى أمضى وحیدًا إلى بلاد أخرى فیها الإنسان معنى وقیمة ولیس رقمًا وضبابًا .. ماذا سیقول أحفادنا القادمون عن شعب فقد إنسانیته وکرامته ببطء حتى صار بلا .. بلا .. بلا .. شاهدت الملک فؤاد فى منامى یسیر فى شوارع القاهرة وهو یرى الزبالة أکوامًا أکوامًا فبکى کیف تکون القاهرة هکذا وقد حصلت عام 1933 فى عهده بوسام أفضل عاصمة نظیفة فى العالم ..؟ أجلسته على مقهى فى التحریر وطلبت له الشاى فرفض ، ومشى فى الزحام واختفى "(1)
یظهر من خلال النص الروائى حالة الإحباط التى شعر بها فتحى رضوان عند محاولته البحث عن قیمة له داخل وطنه ، لکنه یکتشف أن لا قیمة للإنسان فى بلده ، وأن الشعب أصبح فاقدًا لکافة معانى الإنسانیة ، فهو یشعر بالحزن لتردى الوضع فى بلده إلى درجة جعلته یخشى على أحفاده اللذین لم یأتوا بعد من هذا الضیاع الذى یشعر به الشعب المصرى .
کل هذه المشاعر السلبیة التى تؤرقه من الداخل جعلته یرتد فى أثناء نومه – عن طریق الحلم – إلى فترة زمنیة ماضیة ألا وهى فترة حکم الملک فؤاد لمصر ، وقد ظهر الملک فؤاد فى الحلم حزینًا أیضًا ومتحسرًا على القاهرة وشوارعها التى أصبحت ممتلئة بالقمامة بعد أن کانت فى عهده أفضل عاصمة نظیفة فى العالم کله .
فقد أعرب الحلم المنامى الذى استعان به الکاتب فى النص الروائى عن رغبة البطل فى إزاحة الحاضر بکل مساوئه ، والارتداد إلى زمن ماض أفضل منه ، خال من کافة العیوب الذى یعانى منها الحاضر ، وقد أظهر الحلم أن الشعب فى تلک الفترة الماضیة کان یمتلک الضمیر والإنسانیة الذى یفتقدهما فتحى رضوان فى زمنه الحالى الذى یعیش فیه ، والذى انعکس بالطبع على الاهتمام بالوطن ، ونظافته حرصًا على صحة المواطنین ، فکان الحلم هنا بمثابة تمنى فتحى رضوان أن تعود بلده مثل سابق عهدها بلدًا جمیلة ، ونظیفة یستطیع أن یفتخر بها أمام أحفاده فى المستقبل .
وقد استعان الکاتب بالحلم المنامى مرة أخرى فى الروایة نفسها "لیالى دبى (شاى بالیاسمین )" ، وذلک عن طریق تردد الرئیس الراحل " جمال عبد الناصر " مرة أخرى على بطل الروایة " فتحى رضوان " فى منامه :
" قال لى عبد الناصر فى المنام حین سألته :
ماذا فعلت بعد قیام الثورة فى عام 1952 بأیام ؟
هل کان یمکن ألا نغضبهم ونترک تربة وطننا فریسة لشهواتهم وفسادهم وصراعهم على مغانم الحکم ؟.. وفینا من یملک عشرات الألوف من الأفدنة ، وفینا من لایملک قطعة یدفن فیها بعد أن یموت .
وأنا أدرک أغضبنا الساسة القدماء ! ولکن هل یمکن أن نغضبهم ونترک وطننا فریسة لشهواتهم وفسادهم وصراعهم على مغانم الحکم ؟ وأنا أدرک أننا أغضبنا عددا کبیرا من الموظفین . ولکن هل یمکن أن نعطى أکثر من نصف میزانیة الدولة مرتبات للموظفین ولا نستطیع کما صنعنا بالفعل أن نخصص أربعین ملیونًا من الجنیهات للمشروعات الإنتاجیة ؟ .. ماذا علینا لو کنا فتحنا – کما فعل غیرنا –خزائن الدولة ووزعنا ما فیها على الموظفین ولیکن بعد ذلک الطوفان ، ولیکن – أیضًا – أن یجئ العام القادم فلا تستطیع الحکومة أن تدفع مرتبات موظفیها أصلًا وأساسًا . وما کان أسهل أن نرضى هؤلاء جمیعًا وغیرهم ، ولکن ما الثمن الذى کان وطننا سیدفعه من آماله ومستقبله فى مقابل هذا الرضى .
ذلک دورنا الذى حدده لنا تاریخ وطننا ، ولا مفر أمامنا من أن نقوم به ، مهما کان الثمن الذى قد ندفعه . ولم نخطئ أبداً فى فهم هذا الدور ، ولا فى إدراک طبیعة الواجبات التى تلقیها علینا تلک خطوات لإصلاح آثار الماضى ورواسبه مضینا فیها وتحملنا من أجلها کل شئ ، فلما جاء الکلام عن المستقبل قلنا أننا لا نملک هذا وحدنا ؛ فمن أجل ضمان الحیاة السیاسیة فى المستقبل ذهبنا إلى عدد من قادة الرأى من مختلف الطبقات والعقائد وقلنا لهم . ضعوا للبلد دستورًا یصون مقدساته . وکانت لجنة وضع الدستور . ومن أجل ضمان الحیاة الاقتصادیة فى المستقبل ذهبنا إلى أکبر الأساتذة فى مختلف نواحى الخبرة وقلنا لهم :
نظموا للبلد رخاءه واضمنوا لقمة العیش لکل فرد فیه . وکان مجلس الإنتاج تلک حدودنا لم نتعداها ، إزالة الصخور والعقبات من الطریق ، مهما یکون الثمن . والعمل للمستقبل من کل نواحیه مفتوح لکل ذوى الرأى والخبرة ، فرض لازم علیهم ولیس لنا أن نستأثر به دونهم ، بل أن مهمتنا تقتضى أن نسعى لجمعهم من أجل مستقبل مصر ... مصر القویة المتحررة . "( 1 )
فقد نجد أن الکاتب یرتد فى الحلم إلى زمن سابق عن الزمن الذى تدور فیه أحداث روایته آلا وهو عام 1952 ذلک العام الذى قام فیه ضباط الجیش المصرى بثورة 23 یولیو ضد الحکم الملکى بکل مساؤئه من إقطاع ، واستعمار وسیطرة رأس المال على الحکم ، وقد وجد هؤلاء الضباط أن السبیل الوحید للقضاء على کل هذا هو السیطرة على الحکم لإقامة حیاة دیمقراطیة سلیمة ، وعدالة اجتماعیة ، وبناء جیش وطنى قوى.
ویدل ذلک الحلم على رغبة فتحى رضوان فى إزاحة الزمن الذى یعیش فیه والقضاء على کل مساؤئه ، والعودة إلى زمن ماض کانت مصلحة الوطن ومستقبله تعلو کل المصالح الشخصیة للحکام والمسؤلین ، وقد اتضح ذلک من خلال ما قاله الرئیس جمال عبد الناصر لبطل الروایة فتحى رضوان فى نهایة حلمه ، حیث قال " إن مهمتنا أن نسعى لجمعهم من أجل مستقبل مصر .. مصر القویة المتحررة"(2) فقد أعربت تلک الجملة عن الهدف السامى الذى کان یسعى إلیه ضباط الجیش المصرى ، والذى من أجله قامت ثورة 23 یولیو ، کما أعرب الحلم أیضًا عن المشاعر الذاتیة لفتحى رضوان حیث یتمنى أن یجد من حوله أشخاصًا مثل هؤلاء الضباط یخافون على مستقبل مصر ویحرصون على رفعة الوطن وتقدمه باذلین أقصى جهودهم من أجل ذلک .
ویستمر الکاتب فى توظیف الحلم المنامى داخل روایاته ، فنجده فى روایته " کل من علیها خان " البطل – فتحى رضوان - یحلم بواحد من أشهر علماء العرب وهو المؤرخ الجغرافى "المسعودى " ، على نحو ما نرى فى النص التالى :
" جاءنى فى المنام المسعودى قال لى یا بن رضوان ..
( یفتح کتابا ) یقول المسعودى :
" لما خلق الله آدم علیه السلام ، مثّل له الدنیا شرقها وغربها وسهلها وجبالها وأنهارها وبحارها وبناءها وخرابها ، ومن یسکنها من الأمم ... ومن یملکها من الملوک ، فلمّا رأى آدم علیه السلام مصر أرضًا سهلة ذات نهرِ جارِ مادته من الجنة ، تنحدر فیه البرکة ، ورأى جبلًا من جبالها مکسُوّا نورًا لا یخلو من نظرة الرب إلیه بالرحمة .. فى سفحه أشجار مثمرة وفروعها فى الجنة تُسقى بماء الرحمة ؛ فدعا آدم علیه السلام للنیل بالبرکة ، ودعا فى أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى ، وبارک فى جبلها سبع مرات وقال :
" مصر فیک الخفایا والکنوز .. ولک البر والثروة ... وسال نهرک عسلا .. کثر الله زرعک وذکى نباتک .. ولا یزال فیک خیر مالم تتجبّرى وتتکبّرى أو تخونى . " .. اختفى المسعودى "(1)
یشیر الحلم إلى رغبة " فتحى رضوان " فى التخلص من الزمن الذى یعیش فیه وإزاحته بکافة عیوبه ومساوءه ، والعودة إلى بدایة خلق سیدنا آدم ، ونزوله على أرض مصر التى وجدها أرضًا جمیلة ملیئة بالخیرات التى لا تعد ولا تحصى أرضًا نقیة غیر ملوثة ، وکأن البطل بذلک الحلم یتمنى أن تعود مصر مثلما کانت فى سابق عهدها کما وصفها المسعودى له فى الحلم أرضًا ملیئة بالنور والرحمة قبل أن یتفشّى فیها الظلم وقلة الضمیر الإنسانى والغش وغیرها من الآفات العدیدة ، کما یتمنى أن یکون موجودًا فى ذلک الوقت على أرض مصر لعله یستطیع حینها إنقاذ مصر قبل أن یحل بها کل هذا الخراب .
کما أظهر الحلم المنامى أن کل ما یعانى منه المصریون من آفات وأمراض ، وترد فى الحالة الاقتصادیة والاجتماعیة وغیرها من المساوئ العدیدة ، إنما هو لغیاب ضمیر بعض المصریین ولیس العیب فى أرض مصر؛ فالمصریون هم من أفسدوا تلک الأرض الطاهرة النقیة ، وبددوا خیراتها ، ودمروا کل ما هو جمیل علیها ؛ فالحلم هنا وضع القارئ أمام حقیقة لا یستطیع إنکارها أو التملص منها ، وهى أن العیب لیس فى الأرض بل فى أهلها الذین یسکنونها ولا یستطیعون الحفاظ علیها .
النوع الثانى : إزاحة الواقع بحلم راغب فى تخلیص المجتمع من بعض الظواهر الفاسدة :
وقد نجد أن الکاتب یستعین بالحلم المنامى فى روایاته بغرض تحقیق شکل آخر من أشکال الإزاحة ، وهو إزاحة بعض الظواهر الفاسدة الموجودة فى المجتمع ، التى تضر بالبناء الاجتماعى وسلامته ، وذلک من أجل تحقیق صفاء المجتمع ونقائه ، على نحو ما نرى فى النص التالى من روایته " لیالى دبى ( شاى بالیاسمین ) " :
" قال جمال عبد الناصر لى فى المنام :
نحن نحتاج إلى ثورة تفرض علینا أن نعید الهیبة الضائعة لقیم الأخلاق ولا ننسى الماضى .. وفى تلک الأیام قدت مظاهرات فى مدرسة النهضة ، وصرخت من أعماقى بطلب الاستقلال التام ، وصرخ ورائى کثیرون .. ولکن صراخنا ضاع هباءً بددته الریاح أصداء واهنةً لا تحرک الجبال ولا تحطم الصخور .
قلت لجمال عبد الناصر :
أنا مثلک سرت فى مظاهرات فى مدرسة النهضة وقدت مظاهرات فى مدرسة الإسکندریة وکل المظاهرات ضاعت آثارها هباء ... "(2)
فنجد أن الحلم الذى رآه فتحى رضوان صدى لرغبته فى القیام بثورة حقیقیة تقضى على جمیع الظواهر الفاسدة المحیطة به فى المجتمع ، وتنقیه من جمیع الآفات الموجوده به ، لکنه یعجز عن القیام بذلک فى الواقع ، مما دفعه إلى تخزین تلک الرغبة فى اللاوعى ، وخروجها فى صورة حلم منامى یفصح من خلاله عما یرید أن یفعله من حلول لإصلاح ذلک المجتمع .
وبالنظر فى النص الروائى نجد أن العجز الذى یشعر به فتحى رضوان فى الوقت الراهن قد جاء نتیجة خوضه لتلک التجربة فى الماضى أکثر من مرة ، فقد شارک فى مظاهرات مدرسة النهضة التى طالبت بحل دستور 1930 الذى قضى على الحیاة الدیمقراطیة فى مصر ، وعودة العمل بدستور 1923 ، وغیرها من المظاهرات العدیدة التى طالبت بالتغییر ، ولکن کانت کل محاولاته غیر مجدیة وباءت بالفشل ، لکنه رغم ذلک مازال یأمل فى النهوض بالمجتمع وإصلاحه ، ویتمنى داخل نفسه أن یعید التجربة من جدید لعله ینجح فى تحقیق ما لم یستطع تحقیقه بالأمس .
وهکذا نجد أن الکاتب قد استخدم المستوى المباشر فى تقدیمه للحلم المنامى ، ولم یلجأ إلى التداعى الحر بل نجده یصرح بالحلم ، ویفهم دون عناء أنه حلم من خلال شخصیات روایاته أى أن " الشخصیة داخل القصة تصرح بحلمها نحو قوله (حلمت – رأیت ) ولا یعتمد على التداعى الحر ، بل تقوم الشخصیة القصصیة بسرد هذا الحلم سردًا مباشرًا فى نسیج القصة ، فتقل فیه جرعة التناثر وسرعة النقلات وشدة التکثیف ، لحساب سلسلة الأحداث وتنسیق الحوار والتفکیر العادى "(1)، کما أن اللغة التى استعان بها الکاتب فى سرده للأحلام جاءت بسیطة ، وتلقائیة خالیة من الغموض ، والرموز المعقدة ، لکنها تحمل فى طیاتها دلالات عدة ، کما استطاع الکاتب أن یمزج فى الحلم المنامى بین صور الماضى ، والأمل فى المستقبل الذى تطل من خلاله الشخصیة الروائیة على عالم تبغى أن تعیشه لذلک "یعتمد الحلم عند الکاتب على التذکر أو استحضار الأحداث وأحیانًا یعتمد على الاستباق أى یجسد اللحظة المستقبلیة المرجوة فى زمن الحضور"(2)
وبالنظر إلى النصوص الروائیة السابقة نجد أن الأحلام المنامیة قد غلب علیها الطابع السیاسى التاریخى ، حیث إن الزعماء و القادة السیاسیین ، والشخصیات التاریخیة کانوا دائمًا یطاردون بطل الروایات " فتحى رضوان " فى المنام أمثال جمال عبد الناصر ، والملک فؤاد والمؤرخ المسعودى ، ویقصون أحداثًا تاریخیة مروا بها فى زمن ماضِ یسبق الزمن الذى تدور فیه أحداث الروایة ، وبذلک نجد أن الکاتب قد نجح فى "الربط بین الحلم والتوظیف التاریخى واختلال دائرة الزمن معتمدًا على الاستحضار ، واستدعاء الشخصیات من الماضى ، وربطها بالعناصر التاریخیة فى الواقع المعاش "(3)، کما نجد أن الأحلام قد جاءت مساهمة فى بناء الروایات ، وکاشفة عن الملامح الداخلیة للشخصیات ، وعجزهم عن التأقلم مع ذلک الواقع المتأزم لذلک یهربون إلى الحلم .
الظاهرة الثانیة : إزاحة الواقع بحلم الیقظة :
یقصد بحلم الیقظة لجوء الشخصیة إلى خیالها لتحقیق إشباع من آمال وأهداف لا تستطیع تحقیقها فى الواقع ، وذلک عن طریق صنع الشخصیة الحالمة عالم افتراضى لنفسها فى عقلها الباطن لا فى الواقع ، لتستطیع من خلاله تخفیف القلق والتوتر ، والإحباط الناتجین عن الفشل فى تحقیق دوافعها وطموحاتها ، وذلک التخفیف یتم عن طریق التخییل حیث " تتوارد على الشخصیة المفتوحة العینین ، أو المغمضة العینین ( دون نوم ) – صور متنوعة ، ذات أماکن مختلفة ، وأصوات بشریة أو غیرها ، یکون محورها " التمنى " بحصول ما یتوافق أو یختلف معها "(1)، و فى حلم الیقظة نجد أن الشخصیة الحالمة تکون على وعى کافى یجعلها قادرة على التحکم بالأحداث داخل الحلم ، لذلک یطلق علیه بعض النقاد "حلم الوعى " حیث یکون شکل هذا الحلم داخل العمل الأدبى " لیس حلمًا مباشرًا یُحکى على لسان شخصیة القصة ، بل تتداعى الصور والخواطر والأفکار والذکریات من خلال استخدام المونولوج الداخلى المباشر وغیر المباشر ، والقطع ، والاستمرار ، والاختفاء التدریجى ، ویتم الحلم دون تدخل الراوى "(2)، ویشیر آخر إلى تقدیم حلم الوعى أو الیقظة بطریقة المونولوج الداخلى ، فنجده یقول أن " محاولة استخدام المونولوج الداخلى المباشر فى تصویر حلم الوعى أو الوعى کما یتمناه الإنسان فهى طریقة غیر عادیة تماما من طرق استخدامه"(3).
وتدل أحلام الیقظة فى روایات الکاتب على رغبة الحالم فى إزاحة واقعه الردئ الذى فرض علیه ، وتمنى تغییره وإصلاحه بصورة شاملة سواء أکان هذا الإصلاح على المستوى الشخصى أم المستوى السیاسى ، وهو ما ظهر فى روایة " مسافرون بلا هویة " ، حینما سرح کلا من "إبراهیم عمار " و زوجته " منى " بذهنهما متخیلین شکل مستقبلهما ، وهما یعیشان واقع أفضل من الواقع السئ الذى یعیشونه الآن :
" لقد نشرت فى جریدة اللنیش والاحصاء ومصفاة الحکمة – وبحر الأنهار وکل هذا یساوى 300 دینار وسأحصل علیهم و أدبر شقة لى ولک ونعیش فى سعادة بعض الوقت ونسافر إلى أى دولة فى أوربا ربما لیبیا إذا کنا سنعیش فى بلد عربى أو فرنسا إذا کانت بلدًا أوربیّا . أو العراق . أو أى بلد یعطینا هویة .
ضحکت . وسندور حول العالم
نعم
ونشاهد أوبرا عایدة فى إیطالیا وفرنسا وندور
ونغنى
ونرقص
وننجب الأطفال
ونحضر الربیع
ومصر
ارجوک
وقفت قدمى
هل ستعود لها
أنا .. هل مصر تعرفنى یامنى .. أنا برئ من جیلى لکنى لا أبرأ من مصر
صفقت لى الدنیا بأحلام الیقظة . لم أعد أحلم وأنا نائم . "(4)
نجد " إبراهیم عمار " فى هذا النص قد شرد بذهنه هو وزوجته " منى " متخیلین مستقبلهما معًا وآمالهم ، وأحلامهم البسیطة التى تتلخص فى العیش معًا فى سعادة ، وإنجاب الأطفال ، کما نجد أن إبراهیم عمار قد رأى أن السبیل الوحید لتحقیق تلک السعادة له ولزوجته هو ترکهم وطنهم ، والهجرة معًا إلى أى دولة أوربیة أو عربیة یستطیعون فیها تحقیق ما فشلوا فى تحقیقه داخل وطنهم نتیجة سوء الواقع الاجتماعى ، والاقتصادى التى تمر به مصر ، وعلى الرغم من معوقات الهجرة من حیث توفیر مبلغ کاف یمکنهم من السفر مما جعله ینشر العدید من المقالات له فى جرائد مختلفة ، ومن حیث ترکهم لأهلهم ووطنهم وانتظارهم لمجهول لا یعرفونه ، فإنهما یحلمان بالهجرة باعتبارها ضرورة حتمیة لهما لإزاحة الواقع الردئ المحیط بهم ، واستبداله بواقع أفضل لهما و لأطفالهم اللذین ینتظرونهما فى المستقبل .
وعلى الرغم من أن أغلب الأدباء یقدمون حلم الیقظة فى صورة المونولوج الداخلى للشخصیة الحالمة فإن الکاتب فى هذا النص لم یلجأ إلى هذه التقنیة فى تقدیمه للحلم ، بل استعان بالدیالوج أو الحوار الخارجى ، وقد ظهر ذلک من خلال الحوار الذى دار بین إبراهیم عمار وزوجته منى حول شکل مستقبلهما معًا ، وقد استخدم الکاتب الدیالوج فى النص الروائى لیوضح أن الزوجین یشترکان فى الحلم ذاته ، وهذا الاشتراک دلالة على وجود أزمة اجتماعیة حقیقیة ، وملموسة نتیجة الوضع السیاسى والاقتصادى السئ المحیط بهم ، مما جعلهم یتمنون الهروب عن طریق الهجرة لتحقیق أحلامهم .
ویتفق مع هذا الحلم ، ما تخیله " سامى " الشاب السورى فى روایة " قهوة سادة" حینما سرح بذهنه فى أثناء جلوسه على المقهى :
" سامى .. أخو " سهر " جلس على المقهى التى تطل على الجبل .. یشرب الشاى والشیشه .. یحلم بأن یذهب إلى أمریکا ویرتدى قبعة .. ویرکب سیارة أمریکى ویتزوج من حسناء أمریکیة .. کان یحلم بالکثیر.. وأن یتحدث باللغة الانجلیزیة بطلاقة . "( 1 )
یحلم سامى الشاب الذى لایرید العمل داخل وطنه بالطیران إلى أمریکا مثل أغلب الشباب فى الوطن العربى اللذین یراودهم حلم الذهاب إلى أمریکا سعیًا لکسب المال ، وتوفیر حیاة اجتماعیة جیدة ، ورفاهیة عالیة ، إضافة إلى الحصول على متعة الانتماء إلى الحضارة المنتصرة من وجهة نظرهم ، والحیاة تحت ظل دیمقراطیة یفتقدونها فى أوطانهم ، لذلک نجد سامى – أحد شخوص الروایة – یرفض أى فرصة عمل تقدم له داخل وطنه من قبل الأهل أو الأصدقاء ، ویضع حلم الهجرة إلى أمریکا نصب عینیه إلى أن یستطع تحقیقه یومًا ما ، ونجد أن تشبثه بحلمه رغم صعوبة تحقیقه دلالة على صعوبة الأحوال الاقتصادیة فى وطنه ، وخیبات الأمل الکثیرة التى شعر بها ؛ فعلى الرغم من أنه یجد العدید من فرص العمل فى وطنه ، فإنها لا یتناسب مع طموحاته التى یرید أن یحققها فى حیاته ، لذلک یرید إزاحه الواقع الألیم الذى یعیشه عن طریق الهروب والهجرة بحثًا عن فرصة حیاة أفضل ؛ فنجد أن الحلم هنا قد جاء بمثابة نجاة لسامى من الواقع ، وإزاحته بکافة عیوبه ، ومعبرًا عن تعلقه بأهداب الأمل أو خیوطه ، وذلک عن طریق تخیله لشکل حیاته ، والصورة التى سیصبح علیها بعدما یستطیع تحقیق ذلک الحلم .
ینتمى إلى أحلام الیقظة نص سردى آخر ورد فى روایة " لیالى دبى ( شاى بالیاسمین ) " عندما تخیل " فتحى رضوان " أنه من الممکن أن یکون کاتبًا مؤثرًا بشکل إیجابی فى قراءة :
" أنا فتحى ضوان کاتب بسیط أرید أن أرسخ فى ذهن هذا الشعب الأخلاق التى فقدها منذ أن قتل إخناتون .. إن الله یعلم أن شعب مصر والعرب غیر أسویاء ... لذلک أرسل لهم الکثیر من الأنبیاء ، والعلماء ، والنبهاء وکل واحد إما قُتل أو طُرد أو هاجر أو رحل "(1)
قد ظهر من خلال الحلم أن فتحى رضوان رغم بساطته ، وبساطة کتاباته إلا أنه یسعى باستخدام قلمه إلى إزاحه الواقع الفاسد المحیط به ، والذى یفتقد فیه الناس الأخلاق ، و إحلال واقع آخر بدلا منه تسوده القیم والأخلاق النبیلة .
ونلحظ من خلال النص الروائى أن الحلم هنا قد عکس جزء من شخصیة فتحى رضوان ، فهو شخص یفکر بشکل إیجابى ، ویسعى إلى أن یکون مؤثرًا فى المجتمع بکتاباته ، ولا یکتب لإظهار موهبته فى الکتابة أو سعیًا وراء الکسب المادى فحسب ، ولکنه یرید أن یکتب من أجل هدف سامِ وهو إحداث تغییر للظواهر الفاسدة المضرة بالمجتمع ، کما عکس الحلم أیضًا باطن الشخصیة و خوالجها النفسیة ؛ فنجد أن فتحى رضوان قد تکون داخله الشعور بالیأس والإحباط نتیجة الصعوبة التى وجدها فى إصلاح المجتمع التى استمر فیه الفساد على مدى عصور متعددة ، وتغلغل فى نفوس العرب إلى الدرجة التى جعلته سمة لم یستطع کل من العلماء ، والنبهاء والمثقفین إزاحتها أو تغییرها ، ولکنه على الرغم من فشل هؤلاء فى الإصلاح فإنه یملک بصیصًا من الأمل ، ذلک الأمل جعله رغم بساطته یرید المحاولة لعله ینجح فیما فشل فیه السابقون .
وقد نجد أن الکاتب هنا قدم حلم الیقظة فى صورة المونولوج الداخلى المباشر ، وقد ظهر ذلک فى حوار فتحى رضوان مع نفسه ، وذلک دلالة على صعوبة تحقیق ذلک الحلم ، واقتناعه بتلک الصعوبة جعه لا یستطیع أن یبوح بحلمه لمن حوله من الأهل أو الأصدقاء ، ویفضل الاحتفاظ بحلمه داخل عقله الباطن .
وثمة نموذج آخر فى روایة " لیالى دبى ( شاى أخضر ) " استعان فیه الکاتب بحلم الیقظة من خلال شخصیة " سهر " البنت السوریة ، وحلمها بتغییر حیاتها :
" لعبت سهر بخاتم الخطوبة فى یدیها ... وخلعته ونظرت فى اسم منقذ .. بعد أسبوع الامتحانات وستسافر إلى هناک إلى منقذ وسیکون حفل زفاف وستغادر هذا المکان السجن .. الأماکن الفقیرة لا تمنح الناس إلا الأحلام الفقیرة .. والمدن الصغیرة والدول الصغیرة سکانها أحلامهم فقیرة مثلها "(2)
نجد من خلال النص الروائى أن سهر الفتاة السوریة الجمیلة تحلم بالزواج مثل أى فتاة أخرى ، ولکنها تنظر إلى الزواج نظرة مختلفة غیر النظرة التقلیدیة أو المعتادة التى تنظرها أى فتاة أخرى له من حیث الاستقرار وتکوین أسرة جمیلة ، ولکن سهر أجمل بنات الجبل کما لقبها الکاتب فى روایته تعتبر زواجها من منقذ الذى یسکن فى دولة الإمارات بمثابة طوق النجاة لها ، والتى ظلت تنتظره سنوات لینتشلها من مدینتها ، لتسافر معه إلى مدینة دبى مدینة الأحلام بالنسبة لها ؛ فنجد أن السعادة التى تشعر بها سهر ، والتى جعلتها تحلم وتتخیل حفل زفافها ، و مستقبلها مع منقذ لیس حبًا فیه بل رغبة فى الهروب ، والفرار من بلدتها الفقیرة التى تعدها سجنًا یقید أحلامها ، کما تفتقد قیمة العدل ، وحرقت شعبها بالظلم لتذهب إلى دبى حیث الحریة ، والأمان المادى والرفاهیة ، والعدل کما یراها أغلب الشباب العرب ؛ فهى تتمنى أن یمر الوقت سریعًا ، وتنتهى من الامتحانات وتحقق حلمها ، وذلک لإزاحة هذا الواقع الذى فرض علیها لأنها ترى أنها تستحق العیش فى واقع أفضل ، لذلک ترغب فى الحصول على هذا الواقع ، وإن کلفها ذلک الأمر أن تتزوج رجلًا لا تعرفه ولا تحبه ، فهذه الرغبة المسیطرة علی عقلها الباطن هى التى أدت إلى حلم یقظتها .
وقد ظهر حلم الیقظة أیضًا فى روایة " حتى یطمئن قلبى " عن طریق شخصیة " فتحى رضوان " الذى هاجر من وطنه بحثّا عن أحلامه ، ولکننا نجده لا ینسى أمر وطنه ، ویحن إلیه بین الحین والآخر ، کما سنرى فى النص التالى :
" أقود السیارة على شاطئ الخلیج .. لست متأکدًا أنى کائن حى بین الحب والخرافة شئ خفى أوقفتنى سیارة الشرطة طلب رخصة السیارة ورخصة القیادة نظر الشرطى فیها وقال لى :
أنت صحفى ؟
نعم
أنتم واصلین یاصحافیین
لا والله
امال مین اللى واصل ؟
ما أدرى ؟
ضحک الشرطى ناولنى الهویة ورخصة القیادة وانطلقت إلى شارع الصحافة ....... وأظل أحلم بالحریة حتى تدق أبواب الوطن .. أیا لهفة الروح أن تعودى لنا یا بلادى النبیلة ... وأمضى نحو الحقیقة ویتبعنى ظلى وضحکات الأغبیاء تلاحقنى وهم الغالبیة العظمى من بنى وطنى .. "( 1 )
أظهر النص الروائى أن الصحفیین یعدوا جهة ذات سلطة فى دولة الإمارات ، وقد اتضح ذلک من خلال الحوار الذى دار بین الشرطى والصحفى " فتحى رضوان " على الطریق ، والذى دلّ على الهیبة التى یتمتع بها الصحفیون هناک ، تلک الهیبة هى التى جعلت الشرطى یترک فتحى رضوان یمر ویستکمل طریقه فى سلام عند علمه من خلال فحص هویته إنه یعمل بقطاع الصحافة، ذلک بعد أن استوقفه لبحث رخصته وهویته .
وبالنظر إلى النص السردى الذى أعقب الحوار نجد أن الموقف الذى تعرض له فتحى رضوان على الطریق جعل حلم الحریة الذى یظل یراوده طوال حیاته یتردد على ذهنه فى تلک اللحظة متمنیًا تحرر وطنه – مصر – من کافة القیود التى تکبل الحریات ، وبخاصة حریة الفکر والقلم لأن هذه القیود من أهم الاسباب التى جعلته یترک وطنه وأهله ، ویذهب إلى الإمارات باحثًا عن الحریة التى تمکنه من التعبیر عن أفکاره السیاسیة ، والاجتماعیة دون أى مساءلة قانونیة تحرمه من حریة قلمه .
فنجد أن الحلم هنا قد جاء موضحًا للمقارنة التى عقدها فتحى رضوان داخل ذهنه بین المعاملة السیئة التى وجدها کصحفى داخل وطنه ، من إهانه سواء على المستوى المادى أم على مستوى الاستهانة بکلمته وآرائه ، وترهیبه أحیانًا لإسکات صوته وقلمه ، وبین المکانة التى أصبح یتمتع بها کصحفىّ فى دولة الإمارات ، تلک المقارنة جعلته یُمنّى نفسه بأن یرى وطنه وهو یستظل تحت غطاء الحریة ، وقد نبعت تلک الأمنیة من تلهف روحه على وطنه والاشتیاق له ، ولکنه لا یستطع فى تلک الفترة التخلى عن المکانة التى وصل إلیها فى الإمارات لیعود مرة أخرى إلى وطنه الذى لا یقدره .
وبالنظر فى النص الروائى نجد أن الحلم هنا یهدف إلى إزاحة واقع قمع الحریات بأشکاله المختلفة ، الذى عانى منه المصریون على مدار أعوام کثیرة ، وتمنى استبداله بواقع جدید أفضل تسودة الحریة .
وبالنظر إلى النصوص الروائیة نجد أن أحلام الیقظة قد تمحورت حول فکرة إزاحة الواقع الردئ ، عن طریق الهروب منه بالهجرة من الوطن ، والذهاب إلى مکان أفضل تستطیع فیه الشخصیة الحالمة تحقیق رغبتها فى بناء واقع جدید یتلاءم مع أحلامها وطموحاتها .
کما نجد أن الکاتب قد نوّع فى شکل تقدیم حلم الیقظة داخل الروایات حیث یقدمه فى صورة السرد الحوارى تارة ، وتاره أخرى یعتمد فى تقدیمه على المونولوج الداخلى للشخصیة الحالمة ، وذلک التنویع الذى وظفه الکاتب فى روایاته یعتمد على الموقف الذى تواجهه الشخصیة فى إطار الحدث الروائى .
الخاتمة :
نجح الکاتب فى توظیف الأحلام فى روایاته سواء الأحلام المنامیة أم أحلام الیقظة التى ساعدته فى التعبیر عن الرغبات اللاشعوریة للشخصیات الحالمة، تلک الرغبات التى ظلت مقموعة داخل نفوسهم ، ممّا جعلهم یلجأون إلى الحلم کوسیلة تنفیسیة یستطیعون من خلالها الإفصاح عن تلک الرغبات ، کما ساهمت الأحلام فى الکشف عن الأسرار المجهولة للشخصیات الروائیة ، وعرضها من الداخل فى نومها حینًا وفى یقظتها آخر ، وجسدت الأفکار والمشاعر التى تشعر بها من حالات یأس وألم ، وعدم استقرار نفسى نتیجة المعاناة التى یشعرون بها بسبب التدهور السیاسى والتمزق الاجتماعى ، والأزمات الاقتصادیة المحیطة بهم فى واقعهم المعیش ، لذلک نجدهم یتوقون إلى عالم أفضل عن طریق الحلم .
وقد نجد أن الکاتب قد وظف ظاهرة الحلم فى روایاته بهدف إظهار حالة التمرد التى تمر بها شخصیات روایاته على الواقع المعیش ، والرغبة فى إزاحته وتجاوزه ، والخلاص منه عن طریق الحلم الذى یساهم فى رسم ملامح المستقبل المشرق الذى تتطلع إلیه الشخصیة الحالمة ، فهذه الإزاحة تعید للشخصیة الحالمة توازنها النفسى ، وتعطیها جرعة من التفاؤل تستطیع بها استکمال حیاتها ، والتعایش مع الواقع لذلک نجد أن الأحلام قد ارتبطت بالتحولات التى طرأت على نفوس الشخصیات التى کانت تسعى دائمًا إلى الانتصار على الواقع ، أما من الناحیة الفنیة والبلاغیة فقد ساعدت الأحلام على إثراء النص الروائى ، وإعطائه عمقًا دلالیًا عن طریق تشیید عوالم جدیدة داخل نفوس الشخصیة الحالمة تعتمد على الخیال تارة ، وعلى الذاکرة تارة أخرى ، وذلک ساعد الکاتب على الربط بین عالم الحلم وعالم الواقع .
(1)طه وادى (د) ، الروایة السیاسیة ، دار النشر للجامعات المصریة ، ط1 ، 1996م ، ص 50 .
(2)المرجع السابق ، ص 79 .
(3) حسن البندارى ( د ) ، تقنیة الحلم فى النص القصصى عند نجیب محفوظ ، مکتبة بورصة الکتب ، القاهرة ، ط1 ، 2017م ، ص15 .
(4) ابن منظور ، لسان العرب ، ج12 ، ص145 .
(5) إریش فروم ، الحکایات والأساطیر والأحلام ، ت / صلاح حاتم ، دار الحوار ، سوریا ، ط1 ، 1990م ، ص 28 .
(1) سیجموند فروید ، تفسیر الأحلام ، تبسیط وتلخیص / نظمى لوقا (د) ، دار الهلال ، ط1 ، 1962م ، ص13.
(2) المرجع السابق ، ص 183 .
(3) حسن البندارى (د) ، تقنیة الحلم فى النص القصصى عند نجیب محفوظ ، ص 7 .
(4) إریش فروم ، الحکایات والأساطیر والأحلام ، ص 30 .
(5) وهم ست روایات : " مسافرون بلا هویة " ؛ وقد صدرت عام 1997م ، و " قهوة سادة " ؛ وقد صدرت عام 2012م ، و "لیالى دبى ( شاى بالیاسمین ) ؛ وقد صدرت عام 2014م ، " ولیالى دبى ( شاى أخضر) " ؛ وقد صدرت عام 2014م ، و " کل من علیها خان " ؛ وقد صدرت عام 2015 م ، و " حتى یطمئن قلبى " ؛ وقد صدرت عام 2017 م .
(1)حسن البندارى ( د ) ، تقنیة الحلم فى النص القصصى عند نجیب محفوظ ، ص14 .
(2)المرجع السابق ، ص20 .
(3) حسن البندارى ( د) ، تقنیة الحلم فى النص القصصى عند نجیب محفوظ ، ص 20 .
(1)روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) ، ص154 .
(1)روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) ، ص 222 .
(2) روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) ، ص 222 .
(1)روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) ، ص 268 ، 269 .
(1) روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) ، ص 219 .
( 1 )روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) ، ص 228 .
(2) روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) ،ص 228 .
(1) روایة : کل من علیها خان ، ص 29 .
(2) روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) , ص 143 .
(1) مراد عبد الرحمن مبروک ( د) ، الظواهر الفنیة فى القصة القصیرة المعاصرة فى مصر 1967-1984 ، الهیئة المصریة العامة للکتاب ، ط1 ، 1989م ، ص260،261.
(2) المرجع السابق ، ص 278 .
(3) المرجع السابق ، ص274 .
(1) حسن البندارى ( د ) ، تقنیة الحلم فى النص القصصى عند نجیب محفوظ ، ص76 .
(2) مراد عبد الرحمن مبروک ( د ) ، الظواهر الفنیة فى القصة القصیرة المعاصرة فى مصر 1967 – 1984 ، ص 286 .
(3) روبرت همفرى ، تیار الوعى فى الروایة الحدیثة ، ت/ د. محمود الربیعى ، دار غریب ، القاهرة ، 2000م ، ص 64 .
(4) روایة : مسافرون بلا هویة ، ص 27 .
( 1 ) روایة : قهوة سادة ، ص 193 .
(1) روایة : لیالى دبى الجزء الأول ( شاى بالیاسمین ) , ص 322 .
(2) روایة : لیالى دبى الجزء الثانى ( شاى أخضر) ، ص 202 .
( 1 )روایة : حتى یطمئن قلبى ، ص188 .