نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
قسم لغة عربية - کلية البنات - جامعة عين شمس
المستخلص
الموضوعات الرئيسية
المبحث الأوَّل
ما أُعربَ بوجهین من الأسماء والأفعال , وفیه مطلبان :
المطلب الأوَّل : ما أُعربَ بوجهین من الأَسماء , واشتملَ على أربعِ مسائلَ :
المسألةُ الأُولى : قوله : (( جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ علیهِ وسلَّمَ - من أَهلِ نَجْدٍ , ثائِرَ الرَّأْسِ , یُسمَعُ دَویُّ صوتِهِ , ولا یُفقَهُ ما یقولُ ... ))(1) . إذ ذکر ابنُ حجر أَنَّ فی إعرابِ قولِهِ : (( ثائرَ الرَّأْسِ )) وجهینِ : الرَّفعُ على أَنَّه صفةٌ لرجلٍ , والنَّصبُ على أَنَّه حالٌ , فقال : (( قولُهُ : (( ثائِرُ الرَّأْسِ )) , هو مرفوعٌ على الصِّفةِ , ویجوزُ نصبُهُ على الحالِ ))(2) . والمشهورُ من أقوالِ النَّحویِّینَ عدمُ وُقوعِ الحالِ من النَّکرةِ , ما لم یتهیَّأ له من المُسوِّغاتِ ما یُتیحُ وُقوعَهُ منها . وعند النَّظرِفی أقوالِ المتقدِّمین , نجدُ إشاراتٍ , وأمثلةً وشواهدَ لمثلِ هذا الاستعمالِ , ویلاحَظُ أنَّ مجیءَ الحالِ من المعرفةِ هو الأکثرُ استعمالاً وشیوعاً . وقد قیَّدَ النَّحویُّونَ وقوعَهُ من النَّکرةِ بقیودٍ , وضوابطَ یتعلَّقُ بعضها بالمعنى(3) . ومنهم من وصفَ استعمالَ الحالِ مع النَّکرةِ بالقُبْحِ . ومن أُولى الإشاراتِ التی وقفْتُ علیها , ما جاء عن الخلیل , وفیهِ إشارةٌ إلى إباحةِ مجیءِ الحالِ من النَّکرةِ , وذلک عند کلامِهِ على وُجوهِ النَّصْبِ الواجبِ , وقد عدَّها واحداً وخمسینَ وجهاً , فقالَ : (( ... والحالُ لا یکونُ إلَّا نکرةً , والحالُ فی المعرفةِ والنَّکرةِ بحالةٍ واحدةٍ , تقول : قدِمَ علیَّ صاحبٌ لی راجلاً ))(4). وأجاز المبرِّدُ : هذا رجلٌ منطلقاً(5) . واستدلَّ ابنُ السَّرَّاج على جواز الحال من النَّکرةِ بقوله تعالى : ( إنَّهُ لَحَقٌ مِثْلَ مَا أَنَّکُمْ تَنْطِقُونَ )(6) , إذ ذهب إلى أنَّ (( مِثْلَ )) حالٌ من النَّکرةِ (( لَحَقٌّ )) , قال : (( ولا اختلافَ فی جوازِهِ ))(7) , وذهب الورَّاقُ إلى أنَّ مجیءَ الحال من النَّکرةِ مِمَّا یَقبُحُ , وإنَّما جاز مع النَّکرةِ ؛ لشَبَهِهِ بالمعرفةِ , وعلَّلَ ذلک بالقولِ : (( واعلم إنَّما قَبُحَ من النَّکرةِ ؛ لأنَّ معناها , ومعنى الصِّفةِ سواءٌ ؛ وذلک إذا قلتَ : جاءنی رجلٌ ضاحکٌ , فإنَّما أخبرتنا عن مجیءِ رجلٍ ضاحکٍ , ولم یجب أنْ یکونَ ضاحکاً فی حالِ خبرِکَ . فلمَّا اتّفقَ معنى الحالِ والصِّفةِ , کان إجراءُ الصِّفةِ على ما قبلها أَولى ؛ لأنَّ اختلافَ اللفظِ لا یُوجبُ اختلافَ المعنى , فإذا وجَبَ أنْ یُوفَّقَ بین اللفظینِ , ویکونَ المعنى کمعنى المختلف کان أولى ))(8) .
_____________________________
(1)
وحملَ ابنُ جنِّیّ الأمرَ على القِلَّةِ , فقالَ : (( قولک : فیها قائماً رجلٌ , لمَّا کنتَ بین أنْ ترفعَ (( قائماً )) , فتُقدِّمَ الصِّفةَ على الموصوفِ – وهذا لا یکون – وبین أنْ تنصبَ الحال من النَّکرةِ - وهذا على قِلَّتِهِ جائزٌ- حملت المسألةَ على الحالِ فنصبت ))(1). فی حین عَدَّهُ الزَّمخشریُّ مِمَّا یقبُحُ إلَّا فی حالِ تقدُّمِهِ , فقالَ : (( وتنکیرُ ذی الحالِ قبیحٌ إلَّا إذا قدمت علیهِ , کقولِهِ : لِعَزَّةَ مُوحِشَاً طَلَلٌ قَدیمُ(2) ... ))(3). ومن صور الحال المتعلِّقةِ بالمعنى مع النَّکرةِ ما ذکرهُ العکبریُّ معلِّقاً على مجیءِ الحالِ من النَّکرةِ فی نَصٍّ من نصوصِ الحدیثِ الشَّریفِ , إذ یقول : (( ... من ذلک مجیءُ صاحبِ الحالِ نکرةً , کما جاء فی الحدیث : (( ... فجاءَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ علیهِ وسَلَّمَ - على فَرَسٍ سابقاً ))(4), فی قولِ مَنْ جعلهُ حالاً من الفرَسِ . فإنْ کانت الرِّوایةُ هکذا أمکنَ أنْ یکونَ (( سابقاً )) حالاً من الفاعلِ , وإنْ کانت الرِّوایةُ لا یُمکنُ فیها ذلک , حُمِلَ على مجیءِ الحالِ من النَّکرةِ . والفرق بینها وبین الصِّفةِ أنَّکَ لو قلتَ : على فرسٍ سابقٍ , فجررتَ , جاز أن یکونَ معروفاً بالسَّبْقِ , ولا یکونُ سابقاً فی تلک الحالِ , وإنْ نصبتَ لزمَ أنْ یکونَ سبقَ فی تلک الحالِ ))(5). ویُلاحَظُ مِمَّا ذُکِرَ, أَنَّ الأصلَ فی الحالِ أَنْ یکونَ مع المعرفةِ , ولا یأتی من النَّکرةِ إلَّا بمُسوِّغٍ من المُسوِّغاتِ التی أجمعَ النَّحویُّونَ على وُجوبِ توافرِ أحدِها ؛ لیصِحَّ مجیءُ الحالِ من النَّکرةِ , وهی :
- تقدُّمُ الحالِ .
- تخصُّصُ صاحبها بالوصفِ , أو بالإضافةِ .
- وقوعُ النَّکرةِ بعدَ النَّفی , أو شبهِهِ . - أن تکونَ الحالُ جملةً مقترنةً بالواو , کقولنا : زارنا رجلٌ والشَّمسُ طالعةٌ , إذ لا یُمکنُ عدُّها نعتاً ؛ إذ لا یُفصَلُ بین النَّعتِ ومنعوتِهِ بالواو .
أن تکونَ الحالُ جامدةً , کقولنا : هذا خاتمٌ حدیداً .
- أَن تکونَ النَّکرةُ مشترکةً مع معرفةٍ , أو مع نکرةٍ یصِحُّ أَن تجیءَ الحالُ منها , کقولنا : زارنی خالدٌ ورجلٌ راکبَینِ , وقولنا : زارنی رجلٌ صالحٌ وامرأةٌ مبکرین(6). وباستقراءِ تلک المُسوِّغاتِ , یتبیَّنُ أنَّ الفاعلَ فی الحدیثِ السَّابقِ جاءَ نکرةَّ مُخصَّصةَّ بالوصْفِ , وهو قولُهُ : (( من أهلِ نَجْدٍ )) , مِمَّا یُسوِّغُ وقوعَ الحالِ من النَّکرةِ فی أَحدِ وجهی الإعرابِ , وبذا یکونُ ابنُ حجر قد تکلَّمَ وفقَ ما تُجیزُهُ القواعدُ النَّحویَّةُ , وإنْ کان مجیءُ الحالِ من المعرفةِ هو الأکثرُ شیوعاً واستعمالاً , وذلک بناءً على ما ثبتَ عند أکثرِ النَّحویِّینَ ؛ إذ قیَّدوا وقوعَهُ من النَّکرةِ بتوافُرِ واحدٍ من المسوِّغاتِ المذکورةِ آنفاً , وعلَّلُوا ذلک بکونِ الحالِ کالمبتدأ فی المعنى , فکانَ حقُّهُ أَن یکونَ معرفةً , أو قریباً من المعرفةِ(7).
____________________________
(2)
المسألةُ الثَّانیةُ : قولُهُ- صلَّى اللهُ علیهِ وسلَّمَ - مُخبراً عن أشراطِ السَّاعةِ : (( ... إذا وَلَدَتْ الأَمَةُ رَبَّها , وإذا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبلِ البُهْمُ فی البُنیانِ ... ))(1). ویتناولُ البحثُ هنا ما تُجیزُهُ الرِّوایةُ من الأوجهِ النَّحویَّةِ فی قولِهِ : (( رُعَاةُ الإبلِ البُهْمُ )) , وما یصِحُّ من الحرکاتِ الإعرابیَّةِ على میمِ البُهْمِ ؛ إذ أجازَ فیها ابنُ حجرٍ الضَّمَّ على أنَّها صفةٌ للرُّعاةِ , والکسرَ على أنَّها صفةٌ للإبِلِ , فقال : (( ... ومیم البُهْم فی روایةِ البخاری یجوزُ ضمُّها على أنَّها صِفةُ الرُّعاةِ , ویجوزُ الکسرُ على أنَّها صِفةُ الإبلِ ؛ یعنی الإبلَ السُّودَ ))(2). وبما أَنَّ القواعدَ النَّحویَّةَ لا تأبى مثلَ هذه الأوجه الإعرابیةَ , إلَّا أَنَّهُ یُمکنُ القولُ إِنَّ الکسرَ فی میمِ ((البُهْم )) هو الأَرجحُ , والأَکثرُ موافقةً للمعنى , والأَقربُ دلالةً على مقصودِ الحدیثِ ؛ وذلک من وجهینِ :
الأوَّلُ : من جهةِ القواعدِ الإِعرابیَّةِ , فإِنَّ کسرَ المیم , وجعلَ (( البُهْم )) صِفةً للإبلِ , یُجنِّبنا ارتکابَ الفَصْلِ بین الصِّفةِ والموصوفِ ؛ إذ الأصلُ عدمُ الفصْلِ .
والثَّانی : من جهةِ المعنى , فإنَّ (( البُهْم )) وصفٌ یُناسبُ- فی قسمٍ من معانیهِ- الإِبلَ ؛ جاءَ فی الصِّحاحِ : (( البِهامُ : جمعُ بَهْمٍ , والبَهْمُ : جمعُ بَهْمَةٍ , وهی أولادُ الضَّأنِ . والبَهْمَةُ اسمٌ للمذکَّرِ والمؤنَّثِ ... ویُقالُ : هم یُبَهِّمونَ البَهْمَ تبهیماً , إذا أفردوهُ عن أُمَّهاتِهِ فرَعَوهُ وحدَهُ ... والبَهِیمَةُ : واحدةُ البهائِمِ , وهذا فَرَسٌ بَهِیمٌ ؛ أی : مُصمتٌ , وهو الذی لا یخلطُ لونَهُ شیءٌ سوى لونه , والجمْعُ بُهُمٌ , مثل رغیفٌ ورُغُفٌ ))(3). ویُؤیِّدُ ذلک ما ذهب إلیهِ ابنُ حجر فی موضعٍ آخرَ؛ إذ فسَّرَ البُهْمَ بالغنمِ , فقال :(( قولُهُ: البُهْم :أی الغنمُ ,إذ هو جمعُ بَهَمَةٍ , وهی واحدةُ البهائمِ ))(4). وکذا ما جاءَ فی صحیحِ مسلمٍ من إضافةِ الرِّعاءِ إلى البُهْمِ(5)؛ قالَ النَّوویُّ : (( قولُهُ- صلَّى اللهُ علیهِ وسلَّمَ - : (( إذا تَطَاوَلَ رِعَاءُ البَهْمِ )) , هو بفتحِ الباءِ , وإسکانِ الهاءِ , وهیَ الصِّغارُ من أولادِ الغنَمِ ؛ الضَّأْنِ والمَعْزِ جمیعاً , وقیلَ : أَولادُ الضَّأْنِ خاصَّةً ...))(6). کلُّ ذلک یُؤیِّدُ مناسبةَ روایةِ الکسرِفی میمِ (( البُهْم )) للسِّیاقِ من حیثُ المعنى , ویُرجِّحُهُ عدمُ الفصلِ بین الصِّفةِ والموصوفِ .
المسأَلَةُ الثَّالثَةُ : فی قولِهِ- صلَّى اللهُ علیهِ وسلَّمَ - : (( ... ومَنْ وَقَعَ فی الشُّبُهَاتِ , کَرَاعٍ یَرعَى حَولَ الحِمَى , یُوشِکُ أَنْ یُواقِعَهُ ... ))(7). والبحثُ هنا فی (( مَنْ )) , وما عدَّ فیها ابنُ حجرٍ من أوجُهَ إعرابیَّةٍ ؛ إذ ذهبَ إلى أَنَّها تُعرَبُ شرطیَّةً , أو موصولةً ؛ وذلک بناءً على حصولِ الحذفِ من عدمِهِ ؛ فإنْ ثبتَ الحذفُ أُعرِبَتْ (( مَنْ )) شرطیَّةٌ , والمحذوف جوابُ الشَّرط , وإنْ لم یثبت الحذفُ أُعرِبَتْ موصولةً . یقولُ ابنُ حجرٍ :(( قولُهُ : (( کَرَاعٍ یَرعَى )) هکذا فی نُسخِ البخاری , محذوفُ جوابِ الشَّرطِ , إنْ أُعربَتْ (( مَنْ )) شرطیَّةً . وقد ثبتَ المحذوفُ فی روایةِ الدَّارمیِّ , عن أبی نُعَیمٍ- شیخِ البُخاریِّ- فیهِ فقالَ : (( ومَنْ وَقَعَ فی الشُّبُهَاتِ وقَعَ فی الحرَامِ , کالرَّاعی یَرعَى ))(8). ویُمکنُ إعرابُ (( مَنْ )) فی سیاقُ البُخاریِّ موصولةً , فلا یکونُ فیهِ حذفٌ ؛ إذ
_________________________
(3)
التَّقدیرُ : والذی وقعَ فی الشُّبُهاتِ مِثْلُ راعٍ یرعى ))(1). وقد رجَّحَ ابنُ حجرٍ الشَّرطیَّةَ , مُعلِّلاً ذلک بثبوتِ المحذوفِ فی صحیحِ مسلمٍ , فقالَ : (( والأوَلُ أولى ؛ لثبوتِ المحذوفِ فی صحیحِ مسلمٍ(2), وغیرِهِ من طریقِ زکریَّا التی أخرجَهُ منها المؤلِّف ))(3). وعند الأخذِ بالمحذوفِ , وحَمْلِ (( مَنْ )) على الشَّرطیَّةِ , یکونُ إعرابُ قولِهِ : (( کَرَاعٍ یَرعَى )) , جملةً استئنافیَّةً , کما ذهب إلیهِ ابنُ حجرٍ بقولِهِ : (( ... وعلى هذا فقولُهُ : (( کَرَاعٍ یَرعَى )) , جملةٌ مستأنفةٌ وردتْ على سبیلِ التَّمثیلِ ؛ للتَّنبیهِ بالشَّاهِدِ على الغائِبِ ))(4). ویمکن القولُ إنَّ الوجهینِ متأتِّیانِ من الرِّوایةِ , وإنَّ ثُبوتَ المحذوفِ فی أکثر من مصدرٍ یُؤکِّدُ رجحانَ شرطیَّةِ مَنْ . ویتَّضحُ من توجیهاتِ العلماءِ لإعرابِ (( مَنْ )) , وتخریجِهم للرِّوایتینِ اتِّفاقهم على احتمالِ الوجهینِ فیها ؛ إذ لا تعارضَ مع القواعدِ النَّحویَّةِ ؛ فکلا الوجهینِ محتَمَلٌ فیها(5).
المساَلةُ الرَّابعةُ : ما جاءَ فی قولِهِ - صلَّى اللهُ علیهِ وسلَّمَ - : (( مَرحَبَاً بالقَومِ , أَو بالوَفْدِ غَیر خَزَایَا , ولا نَدَامَى ))(6). إذ ذکرَ ابنُ حجر أَنَّ فی قولِهِ :(( غیر خَزَایَا )) وجهینِ فی الإعرابِ ؛ إذ رُویَ بنَصْبِ ((غیر )) على الحالِ , وبجرِّها على الصِّفةِ , مرجِّحاً النَّصبَ ؛ مستدلَّاً برأی الإمامِ النَّوویِّ , وروایةٍ أُخرى للبخاریِّ , فیقولُ : (( قولُهُ : (( غیر خَزَایَا )) بنصبِ (( غیر )) على الحالِ , ورُویَ بالکسرِعلى الصِّفةِ , والمعروفُ الأوَّلُ ؛ قالهُ النَّوویُّ(7), ویُؤیِّدُهُ روایةُ المُصنِّفِ فی الأدبِ المفردِ(8), من طریقِ أبی التّیاح , عن أبی جمرةَ : (( مَرحَبَاً بالوفدِ الَّذینَ جاؤُوا غیر خَزَایا , ولا نَدَامَى ))(9) ))(10). وبما أَنَّ الوجهَینِ محتملانِ من الرِّوایةِ , فإِنِّی سأَبحثُ عن أیِّهما أَنسبُ للمعنى , وأکثرُ موافقةً للسِّیاقِ ؛ وذلک من خلالِ النَّظرِ فی أقوالِ العلماءِ من شُرَّاحِ الحدیثِ . ومِمَّن نظر فیهِ الإمامُ النَّوویُّ الَّذی رجَّحَ النَّصبَ على الحالِ , مستدِلَّاً بروایةِ البخاری الأُخرى من طریقِ أبی التّیاح , فقال : (( و(( غیر )) منصوبٌ على الحالِ , هکذا الرِّوایةُ , ویؤیِّدهُ الرِّوایةُ الأخرى ؛ ذکرهُ البخاری فی غیرِ هذا الموضعِ ... ))(11). والسُّؤالُ هنا : کیفَ أُتیحَ لغیر أنْ یکونَ حالاً , وقد صارَبالإضافةِ معرفةً ؟ والحالُ لا یکون إلَّا نکرةً ؟ وکیف صارَ صفةً للقومِ وهو معرفة ؟. وقد أجابَ الکرمانیُّ عن هذهِ التَّساؤلاتِ بالقولِ : (( و(( غیر )) منصوبٌ على الحالِ , فإنْ قلتَ : إنَّهُ بالإضافةِ صارَ معرفةً , فکیفَ یکونُ حالاً ؟ قلتُ : شَرْطُ
______________________
(1) فتح الباری1/128 . (2) ینظر : صحیح مسلم5/50(4101) . (3) فتح الباری1/128 . (4) المصدر نفسه . (5) ینظر : الکواکب الدَّراری1/204, واللامع الصَّبیح1/297, وعمدة القاری1/298- 299, وإرشاد السَّاری1/142- 143, ومنحة الباری1/232- 233. (6) البخاری1/20 (ح53) , وفتح الباری1/129 . (7) ینظر : شرح النَّوویِّ على مسلم1/187 . (8) کتاب الأدب المفرد للبخاری .
(4)
تعرُّفِهِ أنْ یکونَ المضافُ ضِدَّاً للمضافِ إلیهِ ونحوهِ , وههنا لیس کذلک . ویُروى أیضاً بکسرِ الرَّاءِ صِفةً للقومِ . فإنْ قلتَ : إنَّهُ نکرةٌ , فکیفَ وقعتْ صِفةً للمعرفةِ ؟ قلتُ : المعرفةُ بلامِ الجنسِ قرَّبَ المسافةَ بینهُ وبین النَّکرة , فحکمهُ حکمُ النَّکرةِ ؛ إذ لا توقیتَ ولا تعیینَ فیهِ ))(1). وإلى ذلک ذهبَ الکورانیُّ قائلاً : (( ... ولا إشکالَ فی انتصابِ (( غیر )) على الحالِ ؛ لأنَّها لا تتعرَّفُ بالإضافةِ إلَّا إذا کانَ الضِدُّ متعیِّناً , نحو : علیک بالحرکةِ غیر السُّکونِ ))(2). ویبدو من سیاقِ الرِّوایةِ أنَّ المقامَ مقامُ تکریمٍ وتقریبٍ , استُعملتْ فیهِ مفرداتٌ هی أصلٌ فی التَّرحیبِ والإکرامِ ؛ یقولُ المظهریُّ : (( وهذا القولُ لتأنیسِ الضَّعیفِ , وتألیفِ قلبِهِ , وإزالةِ الحزنِ والاستحیاءِ عن نفسِهِ ))(3). وقال ابنُ الملقِّن : (( ... وأکثرتْ العربُ منهُ ؛ ومرادُها : البِرُّ والإکرامُ , وحسنُ اللِّقاءِ ))(4). وعلیهِ ؛ وأخذاً بالرِّوایةِ الثَّانیةِ : (( مَرحَبَاً بالوفدِ الَّذینَ جاؤُوا غیر خَزَایا , ولا نَدَامَى ))(5) , یکونُ النَّصبُ على الحالِ هو الأرجح , وهو الأنسبُ للسِّیاقِ وللمعنى ؛ فهو حالٌ مؤکِّدةٌ ؛ لأنَّهُ معرفةٌ , أو مسبوقٌ بمعرفةٍ ؛ ولأنَّ المقامَ مقامُ تکریمٍ وترحیبٍ , مِمَّا یقتضی تأکید ذلک بالحالِ ..
_____________________
(1) الکواکب الدَّراری1/207, وینظر : المفاتیح فی شرح المصابیح1/89, للمظهری , وشرح المصابیح1/43, لابن الملک , ومصابیح الجامع1/157, للدَّمامینی .
(2) الکوثر الجاری1/130, وینظر : التَوشیح شرح الجامع الصَّحیح1/227, للسُّیوطیِّ .
(3) المفاتیح فی شرح المصابیح1/89, وینظر : منحة الباری بشرح صحیح البخاری1/236,لابن زکریَّا الأنصاری .
(4) التَّوضیح لشرح الجامع الصَّحیح3/211 .
(5) البخاری8/41(ح6176) .
(5)
المطلب الثَّانی
ما أُعربَ بوجهینِ من الأفعال
وفیهِ خمسُ مسائلَ :
المسألةُ الأولى : قولُهُ - صلَّى اللهُ علیهِ وسلَّمَ - : (( ائتُونِی بِکِتَابٍ أکتُب لَکُم کِتَابَاً لا تَضِلُّوا بعدَه))(1). إذ ذکرَ ابنُ حجرٍ أنَّ فی قولِهِ :(( أکتب )) روایتَینِ : بإسکانِ الباءِ , على أنَّهُ جوابُ الطَّلبِ , وبالرَّفعِ على الاستئنافِ . وذکرَ فیهِ أیضاً توجیهاتٍ نحویَّةً أخرى مُعلِّلاً فیها وجْهَ الرَّفعِ , وحذفَ النُّونِ من (( تَضِلُّوا)) , فقالَ : (( قولُهُ : (( أکتب )) , هو بإسکانِ الباءِ جواب الأمرِ , ویجوزُ الرَّفعُ على الاستئنافِ ))(2). ولا یتعارضُ ما ذهبَ إلیهِ ابنُ حجرٍ , مع القواعدِ النَّحویَّةِ العامَّةِ ؛ فالوجهانِ محتملانِ فی التَّرکیبِ الَّذی تضمَّنَهُ الحدیثُ ؛ غیرَ أنَّ الأقربَ إلى المشهورِ من تلک القواعدِ هو کونُ الفعلِ جواباً للطَّلبِ مجزوماً , مع احتمالِ الاستئنافِ ؛ فإنَّ الغرضَ من قولِهِ : ائتونی , هو لأجلِ الکتابةِ , وما بعدهُ هو نتیجةٌ للکتابةِ , وشرحٌ لمقصودِ الطَّلبِ وغایتِهِ . وقد ذکر ابنُ السَّرَّاجِ ما یُرجِّحُ أحقِّیَّةَ الطَّلبِ بالجوابِ فی تراکیبَ نحویَّةٍ من نصوصِ التَّنزیلِ , فقالَ : (( ... فأمَّا قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ : ( یَا أیُّها الَّذینَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّکُم على تِجَارَةٍ تُنجیکُم مِن عَذَابٍ ألیمٍ )(3), ثمَّ قالَ : ( تُؤمِنُونَ باللهِ ) , فإنَّ أبا العبَّاسِ(4)- رحمَهُ اللهُ - یقولُ : لیس هذا الجواب ؛ ولکنَّهُ شرح ما دعوا إلیهِ , والجوابُ : ( یَغفِر لکم ذُنُوبَکم ویُدخلکم ) . فإنْ قالَ قائلٌ : فهلَّا کان الشَّرحُ : (( أنْ تُؤمنوا )) ؛ لأنَّهُ بدلٌ من تجارةٍ . فالجوابُ فی ذلک : أنَّ الفعلَ یکونُ دلیلاً على مصدرِهِ , فإذا ذکرتَ ما یدلُّ على الشَّیءِ , فهو کذکرِکَ إیَّاهُ ... ))(5). وکانَ المبرِّدُ قد أوضحَ هذا , وبیَّنَ أنَّ الأفعالَ فی مثلِ هذا التَّرکیبِ إنَّما انجزمتْ لکونِها جواباً أو جزاءً , وبیَّنَ أنَّ المجزومَ فی الآیةِ السَّابقةِ إنَّما جُزمَ لکونِهِ جواباً , فقالَ : (( ... فلمَّا انقضى ذکرُها قالَ : ( یغفر لکم ) ؛ لأنَّهُ جوابٌ لـِ هل ))(6). ثمَّ قاسَ المسألةَ على أحدِ الشَّواهدِ النَّحویَّةِ المعروفةِ فی کتبِ النَّحو , وهو قولُهم : (( مُرْهُ یحفُرها )) , مبیِّناً الأوجُهَ الإعرابیَّةَ المحتملةَ فیهِ , ومرجِّحاً الجزمَ فیها , مع احتمالِ الرَّفعِ , وتعدُّدِ احتمالاتِهِ , فقالَ : (( ... وتقولُ : مُرْهُ یحفُرُها , ومُرْهُ یحفُرْها ؛ فالرَّفعُ على ثلاثةِ أوجه , والجزمُ على وجْهٍ واحدٍ , وهو أجودُ من الرَّفعِ ؛ لأنَّهُ على الجوابِ , کأنَّهُ إنْ أمرتَهُ حفرَها . وأمَّا الرَّفعُ فأحدُ وجوهِهِ أنْ یکونَ یحفُرُها على قولک , فإنَّهُ مِمَّن یحفُرُها ... ))(7). ومِمَّا یؤیِّدُ ذلک ما ذهبَ إلیهِ ابنُ هشامٍ من أحقِّیَّةِ الطَّلبِ بالجوابِ , وإن احتملَ الرَّفعَ , فإنَّ الأصلَ فیهِ الجزمُ , إذ یقولُ : (( قولُهم فی نحو : ائتنی أُکرمکَ , إنَّ الفعلَ
____________________________
(6)
مجزومٌ فی جوابِ الأمرِ , والصَّحیحُ إنَّهُ جوابٌ لشرطٍ مقدَّرٍ , وقد یکونُ إنَّما أرادوا تقریبَ المسافةِ على المتعلِّمینَ ))(1). وفی هذا ما یؤکِّدُ أنَّ المجزومَ وإنْ لم یکن جواباً للأمرِ , فإنَّهُ جوابٌ لشرطٍ مقدَّرٍ , وفیهِ یُستدلُّ على ترجیحِ وجْهِ الجزمِ , وأولویَّتِهِ على سائرِ الأوجهِ . وإذا عدنا إلى کلامِ ابنِ حجرٍ , نجدُ أنَّ فی توجیهِهِ , وتعلیلِهِ ما یُؤیِّدُ ترجیحَ الجزمِ , إذ یقولُ : (( قولُهُ : (( لا تَضِلُّوا )) هو نفیٌ , وحُذفت النُّونُ فی الرِّوایاتِ الَّتی اتَّصلتْ لنا ؛ لأنَّهُ بدلٌ من جوابِ الأمرِ , وتعدُّدُ جوابِ الأمرِ من غیرِ حرفِ العطفِ جائزٌ ))(2). لذا یُمکنُ القولُ إنَّ وجْهَ الجزمِ على أنَّهُ جوابُ الأمرِ , أو الطَّلبِ هو الأنسبُ للسِّیاقِ , ومقامِ الحالِ .
المسألةُ الثَّانیةُ : ما جاءَ فی قولِهِ : (( ... قالَ یا رسولَ اللهِ , أفلا أُخبِرُ بها النَّاسَ فیستَبشِرُوا ؟ قالَ : إذاً یتَّکِلُوا ... ))(3). وأقفُ هنا عندَ قولِهِ : (( فیستَبشِرُوا )) , إذ ذکرَ ابنُ حجرٍ أنَّهُ جاءَ بروایتینِ : إحداهما بثبوتِ النُّونِ , والأخرى بحذفها , وقد وجَّههما توجیهاً نحویَّاً رجَّحَ فیهِ حذفَ النُّونِ , وعلَّلهُ بوقوعِ الفاءِ فی الجوابِ , والَّتی هی من دواعی النَّصبِ , فقالَ : (( قولُهُ : (( فیستَبشِرُونَ )) , کذا لأبی ذرٍّ , أی : فهم یستبشرونَ , وللباقینَ بحذفِ النُّونِ , وهو أوجَهُ ؛ لوقوعِ الفاءِ بعدَ النَّفی , أو الاستفهامِ , أو العرضِ , وهی تنصبُ فی کلِّ حالٍ ))(4). وسأتکلَّمُ على هذهِ المسألةِ من جهتینِ :
الأولى : من جهةِ الحکمِ النَّحویِّ لجوابِ الطَّلبِ عموماً بفروعِهِ المعروفةِ .
والثَّانیةِ : حکمُ اقترانِ الفاءِ بالجوابِ فی حدیثِ المسألةِ .
فأمَّا بخصوصِ النُّقطةِ الأولى , فإنَّ الحکمَ النَّحویَّ العامَّ لجوابِ الطَّلبِ هو الجزمُ . واختُلفَ فی الجازمِ ؛ إذ یرى قسمٌ منهم أنَّ جزمَهُ إنَّما حصلَ لکونِهِ جواباً للطَّلبِ . ویرى الأکثرونَ أنَّهُ مجزومٌ بتقدیرِ الشَّرطِ , وعلَّلوا ذلک بأنَّ هذهِ الأشیاءَ غیرُ مفتقرةٍ إلى الجوابِ , والکلامُ بها تامٌّ , والجزمُ إنَّما حصلَ بالشَّرطِ المحذوفِ , یقولُ ابنُ یعیش : (( اعلم أنَّ الأمرَ والنَّهیَ , والاستفهامَ والتَّمنِّیَ والعرضَ , یکونُ جوابها مجزوماً ؛ وعندَ النَّحویِّینَ أنَّ جزمَهُ بتقدیرِ المُجازاةِ , وأنَّ جوابَ الأمرِ , والأشیاءَ الَّتی ذکرناها معهُ هو جوابُ الشَّرطِ المحذوفِ فی الحقیقةِ ؛ لأنَّ هذهِ الأشیاءَ غیرُ مفتقرةٍ إلى الجوابِ , والکلامُ بها تامٌّ . ألا ترى أنَّک إذا أمرتَ فإنَّما تطلبُ من المأمورِ فعلاً ؟ وکذلک النَّهیُ . وهذا لا یقتضی جواباً ؛ لأنَّکَ لا تریدُ وقوفَ وجودِ غیرِهِ على وجودِهِ , ولکن متى أتیتَ بجوابٍ کانَ على هذا الطَّریقِ ؛ فإذا قلتَ فی الأمرِ : ائتنی أکرمْکَ , وأحسِنْ إلیَّ أشکرْکَ , فتقدیرُهُ بعدَ قولکَ : ائتنی إنْ تأتنی أکرمْکَ . کأنَّکَ ضمنتَ الإکرامَ عندَ وجودِ الإتیانِ , ووعدتَ بإیجادِ الإکرامِ عندَ وجودِ الإتیانِ , ولیس ذلک ضماناً مطلقاً , ولا وعداً واجباً . إنَّما معناهُ : إنْ لم یوجدْ لم یجبْ , وهذهِ طریقةُ الشَّرطِ والجزاءِ ))(5). أمَّا بخصوصِ الاستفهامِ تحدیداً , فقد بیَّنَ ابنُ یعیش أنَّ الجزمَ لا یقعُ إلَّا بعد الاستفهامِ
_____________________
(7)
تقریراً , فلا جزمَ معهُ , فقالَ شارحاً : (( ... والاستفهامُ : أینَ بیتُکَ أزرْکَ ؟ کأنَّهُ قالَ : أینَ بیتُکَ ؟ إنْ أعلمْ مکانَ بیتِکَ أزرْکَ , وتقولُ : أأتیتَنا أمسِ نُعطکَ الیومَ ؟ , معناهُ : أأتیتَنا أمسِ ؟ , إنْ کنتَ أتیتَنا أمسِ , أعطیناکَ الیومَ . وإنْ کانَ قولُکَ : أأتیتَنا أمسِ , تقریراً , ولم یکن استفهاماً , لم یجز الجزمُ ؛ لأنَّهُ إذا کانَ تقریراً , فقد وقعَ الإتیانُ , وإنَّما الجزاءُ فی غیرِ الواجبِ ))(1). والمستخلصُ من أقوالِ النُّحاةِ أنَّ شرطَ الجزمِ بعد الطَّلبِ , أن یکونَ المضارعُ المجزومُ مترتِّباً على الطَّلبِ السَّابقِ ؛ بأن یکونَ مسبَّباً عنهُ فی العادةِ والعُرفِ , فإنْ لم یکن کذلک , فإنَّهُ یُرفَعُ , ویُعربُ صفةً لما قبلَهُ ))(2). وأمَّا بخصوصِ اقترانِ الفاءِ بالمضارعِ فی النَّصِّ موضعِ البحثِ , فإنَّ اقترانَها جاءَ موافقاً لما علیهِ عمومُ النَّحویِّینَ ؛ إذ اشترطوا فی الفاءِ السَّببیَّةِ النَّاصبةِ للمضارعِ أن تکونَ مسبوقةً بنفیٍ محضٍ , أو طلبٍ محضٍ ؛ کالنَّهی والاستفهامِ , وباقی فروعِ الطَّلبِ , کقولِهِ تعالى : ( لا یُقضَى علیهِم فیَمُوتُوا )(3). وقد سُبقت الفاءُ فی هذا الحدیثِ باستفهامٍ , فکانَ حقُّها أن تنصبَ الفعلَ بعدها , وهو استفهامٌ یحتملُ معنى الشَّرطِ أیضاً(4). وکذلک فإنَّ الاستئنافَ محتملٌ فی هذا التَّرکیبِ ؛ إذ لا یصِحُّ الاستئنافُ إلَّا حینَ یمتنعُ عطفُ ما بعد الفاءِ على ما قبلها , والعطفُ هنا ممکنٌ . ویمکنُ القولُ إنَّ النَّصبَ هو الرَّاجحُ هنا , واحتمالُ الاستئنافِ ضعیفٌ ؛ لاحتمالِ العطفِ , کما أنَّهُ محکومٌ بثبوتِ الرِّوایةِ ..
المسألةُ الثَّلثةُ : ما جاءَ فی قولِهِ - صلَّى اللهُ علیهِ وسلَّمَ - : (( إذا شَرِبَ أحدُکُم , فلا یتَنَفَّسْ فی الإناءِ , وإذا أتى الخلاءَ , فلا یَمَسَّ ذکرَهُ بیمینِهِ , ولا یَتَمَسَّحْ بیمینِهِ ))(5). والوجهانِ الواردانِ فی هذا النَّصِّ , هما الجزمُ فی الأفعالِ الثلاثةِ , والرَّفعُ فیها ؛ وذلک بناءً على احتمالِ النَّهیِ فی (( لا )) , والنَّفی , إذ یقولُ ابنُ حجرٍ : (( قولُهُ : (( فلا یتَنَفَّسْ )) بالجزمِ , و(( لا )) ناهیةٌ فی الثَّلاثةِ , ورُویَ بالضَّمِّ فیها ؛ على أنَّ ((لا )) نافیةٌ ))(6). وإذا نظرنا فی أحوالِ رکنی الجملةِ الشَّرطیَّةِ إذا کانا فعلینِ , نجدُ أنَّ ترتیبهما على النَّحوِ الآتی(7): - أن یکونا ماضیینِ , کقولِهِ تعالى : ( إنْ أحسَنتُم أحسَنتُم لأنفُسِکُم )(8). - أن یکونا مضارعینِ , کقولِهِ تعالى :(وإنْ تُبدُوا مَا فی أنفُسِکُم أو تُخفُوهُ یُحَاسِبْکُم بِهِ اللهُ )(9). __
____________________
(8)
- أن یکونَ الشَّرطُ ماضیاً , والجزاءُ مضارعاً , کقولِهِ تعالى : ( مَن کانَ یُریدُ الحیاةَ الدُّنیا وزینَتَها نُوَفِّ إلیهم أعمالَهُم فیها )(1).
- أن یکونَ الشَّرطُ مضارعاً , والجزاءُ ماضیاً , وهو قلیلٌ , ومنهُ قولُهُ- صلَّى اللهُ علیهِ وسلَّمَ- : ((مَن یَقُمْ لیلةَ القَدْرِ , غُفرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ ))(2).
وقد أجملَ ابنُ مالکٍ هذا التَّرتیبَ بقولِهِ :
وماضیینِ , أو مُضارعینِ تلفیهما , أو مختلفینِ(3)
وأمَّا عن الأحسنِ من تلک الوجوهِ , أو الأفضلِ فیقولُ :
وبعدَ ماضٍ رفعُکَ الجَزا حَسَن ورفعُهُ بعدَ مضارعٍ وَهَن(4)
وقالَ ابنُ عقیلٍ یشرحُ هذا البیتَ : (( أی : إذا کانَ الشَّرطُ ماضیاً , والجزاءُ مضارعاً , جازَ جزمُ الجزاءِ ورفعُهُ , وکلاهما حسنٌ ؛ فتقولُ : إنْ قامَ زیدٌ یقُم عمرٌو, ویقومُ عمرٌو, ومنهُ قولُهُ :
وإنْ أتاهُ خلیلٌ یومَ مسألةٍ یقولُ لا غائبٌ مالی ولا حرمٌ(5) ))(6).
وعندَ العینیِّ أنَّ الشَّاهدَ فیهِ قولُهُ : (( یقولُ )) , (( فإنَّهُ مضارعٌ وقعَ جزاءَ الشَّرطِ , وهو مرفوعٌ غیرُ مجزومٍ . وقد عُلِمَ أنَّ الشَّرطَ إذا کانَ ماضیاً , والجزاءُ مضارعاً یجوزُ فیهِ الرَّفعُ ))(7) .
والَّذی یظهرُ أنَّ النَّهیَ فی هذا التَّرکیبِ هو الرَّاجحُ ؛ لأنَّهُ أمرٌ متعلِّقٌ بالعبادةِ , والأَولى بالعبادةِ , أو الطَّاعةِ أن تُؤدَّى على الوجهِ الأکملِ , والأحسنِ قَدْرَ المستطاعِ , ولیس فیما وردَ فی الحدیثِ من توجیهٍ ما یتعذَّرُ فِعلُهُ على العابدِ , أو یستعصی , ثُم إنَّهُ یتعلَّقُ فی جزءٍ منهُ بالطَّهارةِ الَّتی هی شرطٌ من شروطِ الوجوبِ فی الصَّلاةِ , وإذا کانَ الجزمُ فی (( فلا یتَنَفَّسْ )) , المتعلِّق بشربِ الماءِ , وغیرِهِ(8), فإنَّهُ فیما عُطِفَ علیهِ آکدُ وأولى . _________
______________
(9)
المسألة الرَّابعةُ : ومنهُ ما جاءَ فی قولِهِ علیهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : (( ... فإذا خَشِیتَ الصُّبحَ فأوتِرْ بواحدةٍ , تُوتِرُ لکَ ما قد صلَّیتَ ))(1). فقد ذکرَ ابنُ حجرٍ أنَّ فی قولِهِ :(( تُوتِرُ)) وجهینِ من الإعراب : الأولُ بجزمِ تُوتِرُ ؛ لکونِهِ جواباً للطَّلبِ , والثَّانی بالرَّفعِ على الاستئنافِ , فقال : (( تُوتِرْ : بالجزمِ جواباً للأمرِ , وبالرَّفعِ على الاستئنافِ ))(2). وبناءً على قولِ ابنِ حجرٍ , فإنَّ الفعلَ المضارعَ هنا یطلُبُهُ إعرابانِ , ویتنازعُهُ مطلبانِ : الجزمُ ؛ لوقوعِهِ جواباً للأمرِ , والرَّفعُ ؛ لوقوعِهِ فی صدرِ جملةٍ استئنافیَّةٍ . وعندَ استقراءِ کلامِ النَّحویِّینَ , وما أثبتوهُ من قواعدَ , یترجَّحُ الجزمُ جواباً للأمرِ . یؤیِّدُ ذلک , ویقوِّیهِ ما شاعَ فی لغةِ التَّنزیلِ من تراکیبَ مُشابهةٍ , وعباراتٍ مماثلةٍ لما وردَ فی الحدیثِ أعلاه ؛ من ذلک قولُهُ تعالى : ( فاذکُرونی أذکرْکُم )(3), وقولُهُ تعالى : ( یا أیُّها الَّذینَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ وآمنُوا برسُولِهِ یُؤتِکُم کِفلَینِ من رحمَتِهِ )(4), وقولُهُ تعالى :(یا أیُّها الَّذینَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قولاً سَدیدَاً یُصلِحْ لکُم أعمالَکُم ویغفرْ لکُم ذنوبَکُم )(5). والأمثلةُ على ذلک کثیرةٌ وشائعةٌ , ولا یتَّسعُ المقامُ لحصرِها . والثَّابتُ والمشهورُ فی کتب النَّحویِّینَ أنَّ جوابَ الأمرِ ینجزمُ بالأمرِ , کما انجزمَ جوابُ الشَّرطِ بالشَّرطِ . وقد عقدَ سیبویهُ باباً فی کتابِهِ لما ینجزمُ من الأفعالِ , ومِمَّا وقعَ تحتَ هذا البابِ جوابُ الأمرِ ؛ فبیَّنَ ذلک قائلاً : (( ... إذا کانَ جواباً لأمرٍ , أو نهیٍ , أو استفهامٍ , أو تمنٍّ , أو عرضٍ ؛ فأمَّا ما انجزمَ بالأمرِ فقولُکَ : ائتنی آتِکَ ))(6). وعلَّلَ الجزمَ فی هذهِ المواضعِ بتعلُّقِهِ بالفعلِ الأوَّلِ , وعدمِ استغنائِهِ عنهُ فقالَ : (( وإنَّما انجزمَ هذا الجوابُ , کما انجزمَ جوابُ : إنْ تأتنی , بـ إنْ تأتنی ؛ لأنَّهم جعلوهُ معلَّقاً بالأوَّلِ غیرَ مُستغنٍ عنهُ , إذا أرادوا الجزاءَ , کما أنَّ : إنْ تأتنی غیر مستغنیةٍ عن آتِکَ ))(7). وحملَ المبرِّدُ سببَ الجزمِ على أنَّ جوابَ الأمرِ والنَّهیِ هو بمثابةِ الجزاءِ , فقال : (( واعلم أنَّ جوابَ الأمرِ والنَّهیِ ینجزمُ بالأمرِ والنَّهیِ , کما ینجزمُ جوابُ الجزاءِ بالجزاءِ ؛ وذلک لأنَّ جوابَ الأمرِ والنَّهیِ یرجعُ إلى أن یکونَ جزاءً صحیحاً , وذلکَ قولُکَ : ائتنی أکرمْکَ ؛ لأنَّ المعنى : فإنَّک إنْ تأتنی أکرمْکَ ))(8). وفی أقوالِ قسمٍ من شُرَّاحِ الحدیثِ ما یوحی بترجیحِ الجزمِ على الرَّفعِ , وکونُهُ الأشهرَ والثَّابتَ , جاءَ فی اللَّامعِ الصَّبیحِ : (( تُوترْ : أی الواحدةُ , وهو مجزومٌ جواباً للأمرِ , وفی بعضها مرفوعٌ استئنافاً , وإسنادُ الإیتارِ للصَّلاةِ مجازٌ ))(9).
_______________________
(1) البخاری1/102(ح473) , وینظر : ( ح 990, و 993) , وفتح الباری1/562 .
(2) فتح الباری1/562 .
(3) البقرة : 152 . (4) الحدید : 28 . (5) الأحزاب : 70 .
(6) الکتاب3/93- 94, وینظر : شرح جمل الزَّجَّاجی : 291, لابن هشام .
(7) الکتاب3/93- 94 .
(8) المقتضب2/135 . (9) اللَّامع الصَّبیح بشرح الجامع الصَّحیح3/257, وینظر : التَّوشیح بشرح الجامع الصَّحیح2/542, للسِّیوطی , ومنحة الباری2/189, لزکریَّا الأنصاری .